مقالات مختارة

المافيا العراقية ومحاربة "الشيطان الأكبر"

1300x600
كتبت هيفاء زنكة: عادت موجة الاختطاف، بقوة، لترعب المجتمع العراقي، في بغداد خاصة. المليشيات الطائفية تتمدد وتتوسع لتمارس كل أنواع الإرهاب ضد المواطنين، وبعض المواطنين أكثر من غيرهم. إذا كانت "داعش" قد فتحت أبواب الجحيم لتستقبل الجميع إما أن يكونوا موالين لها أو قتلى، بلا استثناء، فإن المليشيات الطائفية، بحماية النظام، تخوض حملة تطهير طائفية، انتقائية بامتياز. تحت ذرائع مختلفة. آخرها انتقاما من جرائم "داعش"، أولها، قبل ولادة داعش بعشر سنوات، تشمل التهجير والقتل والقصف الجوي والعقاب الجماعي. 

بحماية النظام الطائفي ومواليه (لا تخلو القائمة من أكاديميين)، تضع المليشيات على صدر كل من ترغب بتهجيره والاستيلاء على ممتلكاته أو قتله شارة تشبه ما كانت تضعه النازية على صدور اليهود، وما يضعه الصهاينة على بيوت الفلسطينيين قبل تهديمها بالجرافات، وما وضعته داعش على بيوت المسيحيين وكل من يخالفها. مكتوب على الشارة "إرهابي- وهابي – صدامي- قاعدي – داعشي". موزعو شارات التمييز والقتل هم أفراد مليشيات النظام العراقي التي تكاثرت أعدادها بسبب رواج سوق الجريمة والطائفية الإقليمي، بحيث يتجاوز عددها الثلاثين يوما، أبرزها بين الميليشيات الناشطة، أرضا، هي عصائب أهل الحق (إيرانية) وسرايا السلام (التيار الصدري) وفيلق بدر الذي حارب في صفوف القوات الإيرانية أثناء سنوات الحرب العراقية الإيرانية الثمانية. وكما هو الحال في جميع الصراعات المسلحة المشابهة، فمن أهم شروط تأسيس وتمويل هذه المليشيات من قبل جهات رسمية أو غير رسمية، إيرانية أو لبنانية في الغالب، حق الممولين في تعيين 3 مفوضين للتدريب العسكري، وللتوجيه المعنوي وللعلاقات الخارجية. 

ويتجاوز الأمر عند منظمة بدر إلى الظهور العلني لزعمائها، وبينهم وزير الداخلية الجديد، إعلاميا، مع قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني في مناطق القتال العراقية. وهذه المليشيات، وليس "الجيش العراقي" الذي انفضح كونه كيانا ورقيا لا وجود له على الأرض، هي التي تتقاسم العراق مع قوات وطائرات أمريكا وثلاثين دولة من الحلف الكوني جوا التي استجدى النظام الحالي، بمباركة إيران، جلبها لاحتلال البلد من جديد. ترى ما الذي جرى لشعار "محاربة الشيطان الأكبر" و"الموت الموت لأمريكا"، الذي يواصلون بيعه، بالأطنان، للسذج من العامة أو لعميان البصيرة في سوق الشعارات؟
 
الاختطاف مهنة مربحة جدا لا تحتاج كفاءة أو شهادة ولا ساعات عمل طويلة. كل ما تحتاجه المليشيات لنجاح مهنتها أن يكون البلد بلا دولة وبلا قانون وأن تتوفر للمليشيات حماية الحكومة أو الأفضل أن تكون المليشيا جزءا لا يتجزأ من تركيبة الحكومة. وهل هناك حماية أفضل من حماية وزير الداخلية الذي يحتل مركزا قياديا في مليشيا فيلق بدر؟ 

من يتابع تركيبة البرلمان العراقي سيلاحظ تفوقه على المافيا الإيطالية في عدد النواب الذين يمثلون المليشيات بدلا من الشعب. مما يعني شرعنة عمليات الاختطاف والقتل والتنافس على العقود الحكومية بدءا من عقود السلاح إلى الكتب المدرسية والإعلانات التلفزيونية. وإذا كانت المافيا في جنوب إيطاليا قد قامت، في العام الماضي، بتدوير مالي قدره 44 مليار جنيه إسترليني، أي ما يزيد على تدوير البنك الألماني وماكدونالد سوية، فإن نظام المليشيات العراقي يخطو، بسرعة مذهلة، وفي وقت قياسي، نحو منافسة المافيا آخذين بنظر الاعتبار حداثة عهد المليشيات بالمقارنة مع المافيا الصقلية التي ولدت حوالي عام 1800. فقد أشار مصدر إلى حصول المليشيات "على مبلغ يتجاوز الـ 200 ألف دولار كفدية من مجموع حوادث الاختطاف التي نفذتها في أسبوع واحد بمحيط محلة الصليخ في جانب الرصافة من بغداد" فقط. و أن ضحايا الاختطاف "هم طالب جامعي وأستاذ في مدرسة ثانوية واثنان من أصحاب المحال المخصصة بتجارة الأجهزة الكهربائية، بالإضافة إلى طالبة في الدراسة الإعدادية، ودفع لخاطفيها مبلغ 60 ألف دولار مقابل إطلاق سراحها، فيما تراوحت فدية الباقين بين 10 آلاف و40 ألف دولار".

لا تكتفي المليشيات بالاختطاف والابتزاز واستلام الفدية التي يفضل المواطنون بيع بيوتهم وكل ما يملكون لدفعها، إنقاذا لأفراد عائلتهم، على أن يلجؤوا إلى الشرطة وجهاز الأمن، بل وصلت وحشية العصابات إلى قتل المختطفين من إطفال ونساء ورجال ورمي جثثهم في الطرق بعد استلام الفدية.

واذا كانت مأساة العراق كارثية لتفريغه من تنوعه الديني والعرقي ومحاولة تقسيمه فإن الاستهداف الممنهج للبقية الباقية من عقوله العلمية، سيقود إلى إجهاض أي حلم يراودنا عن جيل مستقبلي قادر على التفكير والوعي النقدي وحرية المبادرة، بعيدا عن أصنام التجهيل المتعمد، ونموذج دعاة الأصنام، في دعوة توازي ترسيخ "طاعة ولي الأمر" هو "سماحة الشيخ" جلال الدين الصغير، المحرض في موقعه ومقالاته ( 28 أكتوبر)، على البلادة وحظر الجدال خاصة "في الشعائر الحسينية وبالذات التطبير"، مبديا تعجبه من جرأة البعض، على طرح التساؤلات خاصة بين الشباب، ولم التساؤل والتفكير مادام "كل شخص لديه مرجع وعليه أن يأخذ برأي مرجعه في هذه الشعائر فإذا قال المرجع الذي تقلده: هذه الشعيرة حلال؛ اذهب واعمل الذي تريد فعله من إحياء هذه الشعيرة، وإذا المرجع الذي تقلده قال: حرام هذه الشعيرة اعمل في العمل الذي يتناسب مع المرجع الذي تقلده".

فلا عجب، في أجواء التجهيل الظلامي هذه، أن يتم، خلال أسبوع واحد، اختطاف أربعة أساتذة جامعيين، ببغداد وحدها. من بينهم أستاذ الرياضيات الدكتور مجبل الجوعاني، الذي اختطف ابنه أولا ثم قتل بعد أن دفع الفدية على يد مليشيا في منطقة الأعظمية. ولايزال مصير الأستاذ مجهولا على الرغم من حملة التضامن العالمية التي تقودها منظمة "عمال أمريكيون ضد الحرب" وبناء على معلومات وثقتها هيئة الأساتذة الجامعيين العراقيين، بالتزامن مع محكمة بروكسل لمحاكمة مجرمي الحرب ضد العراق. المعروف أن "محكمة بروكسل"، هي واحدة من المنظمات الحقوقية العالمية التي توثق، تفصيلا، أسماء الضحايا من الأكاديميين والعلماء والمدرسين العراقيين، موفرة بذلك المعلومات المطلوبة، مستقبلا، لمحاكمة المسؤولين عن هذه الجرائم. كما انها المنظمة التي رعت إجراءات محاكمات الضمير العالمية ضد الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير في 11 دولة، في أرجاء العالم. ومثل كل مبادرات التضامن مع الشعب العراقي، تواجه منظمة محكمة بروكسل حملة تشويه واتهامات، باعتبارها "بعثية وإسلامية – صدامية وداعشية" في آن واحد. مما يجعلها، تقف، بمفارقة مضحكة، وفي ظل قولبة عقلية كونكريتية، في قفص اتهام واحد مع المنظمات الحقوقية الدولية مثل "هيومان رايتس ووتش" و"العفو الدولية" التي لا يمر شهر بدون ان تصدر تقريرا عن خروقات حقوق الانسان بالعراق، وحملات التطهير الطائفي.


(صحيفة القدس العربي)