قضايا وآراء

فلسطين: الزرع الفاسد ومعادلة تبرير وتمرير التعامل مع الاحتلال

1300x600
هم ليسوا مجرد أسماء ولا مجرد تعابير عابرة، هم معتز وعبد الرحمن وإبراهيم وخير الدين ونور الدين وماهر ومحمد وغيرهم من السابقين واللاحقين من أبناء الوطن من الذين سلكوا طريق الكرامة والشهامة وذادوا عن شعبهم ووطنهم وقدسهم وأقصاهم وبذلوا من أجله أغلى ما عندهم، وضَّحوا بروحهم ودمائهم حين هلك الهالكون والعاجزون واللاهثون وراء حياة تافهة عنوانها الراتب والمناصب وفحواها المذلة.. عزيزي البطل الفلسطيني اليافع، تمنيت أن تسقط على رأسي كل حقائب الدنيا بكل أثقالها، ولا يصاب رأسك ويُقطع وريدك، أيها اليانع البطل ابن الثامنة عشر ربيعا .. كلمة وجب قولها باسم الفلسطينيين الغاضبين على ما آلت إليه أحوال شعب فلسطين، وإياكم ثم إياكم أن تتهموننا بالتطرف لأننا نكشف الحقيقة ونتعرض لحالة وظاهرة فلسطينية حاصلة، لأقول اللعنة كل اللعنة على الراتب والمقام والمنصب إذا صار وجوده على حساب وجود الوطن وحقوق الشعب... 

أيها الفلسطينيون، أينما كنتم وتواجدتم، نحن منفصمون وغير منسجمين وطنيا، ومن بين صفوفنا نبت زرع غير وطني وفاسد وانتهازي ولا يمت للقضية الفلسطينية بأي صلة، لا بل إن هذا الزرع في واد وفلسطين في واد آخر، والحقيقة الصادمة أن حصاد هذا الزرع قد أفضى إلى وجود شرائح ليست قليلة العدد من الشعب الفلسطيني مربوطة بمنظومة الاحتلال، ليس فقط في الضفة وغزة ،لا بل في كامل فلسطين التاريخية، وهذه الشرائح من بين صفوفها شريحة المتعلمين، وممتهني المهن المتواجدة في الوسط وما فوق، داخل الطبقة المتنفذة والمرتبطة ارتباطا مباشر بمنظومات ومؤسسات الاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي ما هو جارٍ منذ عقود أن هذه الشرائح والفئات الفلسطينية قد فضلت العيش في ظلال الاحتلال على الوجود في الصف الوطني الفلسطيني، وجل همها ينكبّ على العيش والمعاش، وتوفير السيارة، والاستفادة من الامتيازات والقروض البنكية وغيرها التي تقدمها منظومة الاحتلال الصهيوني ومشتقاتها من المتنفذين داخل صفوف الشعب الفلسطيني، سواء في الضفة والقطاع أو في فلسطين الداخل..

شئنا أم أبينا، اعترفنا أو أنكرنا، في فلسطين نشأ واقع أليم ومنفصم بعد عقود من الاحتلال والاختلال، وهذا الواقع لابد من الاعتراف به، وهو أن شريحة كبيرة فلسطينية تنتفع من الاحتلال، وتنسجم مع مقوماته ومعطياته، وما زال هذا الأخير يوفر لها سبل العيش ويمنحها الامتيازات، طالما حافظت على حياديتها، وهادنت الاحتلال، وروجت لأولوية العيش والمصلحة الشخصية على حساب مصلحة العامة والوطن كله، ويخطأ من يظن أننا نعني هنا سلطة رام الله وإفرازاتها فقط، لا بل أن الحقيقة الصادمة أن الزرع الذي نبت في رام الله موجود في كل قرية وحارة في فلسطين، وعدد أفراد الشرائح الخانعة والمروضة ازداد كثيرا في ظل طول مدة الاحتلال من جهة، وفي ظل الترويج لثقافة الخنوع والراتب والمعاش والرفاهية وعدم جدوى مقاومة الاحتلال من جهة ثانية، وبالتالي لابد من الاعتراف أن نسبة لا يُستهان بها من الفلسطينيين أصبحت عميلة موضوعية للاحتلال، ومروجة لضرورة بقاء هذا الكيان الغاصب ضمانةً للعيش والمعاش، وآخر ما تفكر فيه هذه الثلل هو فلسطين وحقوق الشعب الفلسطيني!

يا سيداتي سادتي، أينما كنتم وتواجدتم وطنا ومهجرا، نحن نعيش منذ أمد حالة انفصام وطني، وتناقضات معادلة التبرير والتمرير التي تبرر وجود السلطة وتعاونها مع الاحتلال باسم فلسطين من جهة، وتبرر وجود أعضاء عرب في كنيست الكيان باسم فلسطين أيضا من جهة ثانية، وبالتالي هنالك إشكالية وطنية واضحة المعالم، وتكمن مقوماتها في التناقض التناحري بين وجود الكيان ووجود فلسطين، ومحاولة البعض الانتهازي تبرير تعامله وتعاونه مع الاحتلال، وترشحه للكنيست الإسرائيلي من بوابة خدمة الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية، وهذا البعض التضليلي شوهَّ، وما زال يشوه، معالم القضية والهوية الفلسطينية، ويضلل الوعي العام الفلسطيني ليجعله مشوّها إلى حد الخلط بين وجود الكيان والاعتراف به واقعا، وكأنه لا علاقة له باحتلال فلسطين، ولا علاقة له بوجود قضية الشعب الفلسطيني، ولا علاقة له حتى بتشريع وشرعنة تشريد الشعب الفلسطيني واحتلال أرضه.. يوجد اليوم من بين صفوف الشعب الفلسطيني نسبة ليس بقليلة من فضلت العيش والمصالح الشخصية على الوطن والمصلحة العامة، وهذا العيش والمعاش مرتبط بمؤسسات دولة الكيان المقامة على التراب الوطني الفلسطيني، والمؤسف في الأمر أن الأرقام 48 و67 والخط الأخضر صارت شبه بديل للهوية الوطنية الفلسطينية التي تجمع بين جميع قطاعات الشعب الفلسطيني سواء في الوطن أو خارجه، لكن المؤسف أكثر أن قضية ملايين من اللاجئين تغيب في غياهب النسيان والتهميش..

هنالك شرائح وقطاعات فلسطينية، سواء في الضفة أو غزة أو فلسطين الداخل والمهجر لم يعد يهمها ما يجري من احتلال وتنكيل، ولا يهمها حتى ما يجري من تهويد للقدس والأقصى المبارك، وهمها الأول هو العيش والمعاش الذي توفره لهم دولة الاحتلال أو الدول الإمبريالية الداعمة لهذا الاحتلال، ليس البرجوازية فقط؛ لا بل شرائح فلسطينية متنفعة ومتنفذة تربي أبناءها وبناتها على تفضيل المصلحة الشخصية وتقديس من يخدم هذه المصلحة حتى لو كان هذا الاحتلال الإسرائيلي وعن المتأسرلين والمتصهينين من أبناء وبنات الشعب الفلسطيني فحدث بلا حرج.. هنالك ممن يتحدثون العبرية ويفضلونها على العربية، وهنالك من يفتخرون بكونهم إسرائيليين، ويعيشون عيش رغد، ولا يهمهم لا من بعيد ولا من قريب التاريخ الفلسطيني، يدعون لبقاء دولة الكيان، لأنها بحسب قناعاتهم الملوثة هي الضمانة لعيشهم، وهي الضمانة للوظيفة والراتب والمنصب...نعم في بلادنا صار عدد المتصهينين المتنكرين لفلسطينيتهم ولحقوق شعبهم كُثر وأكثر من كُثر!

ليس هذا فقط في بلادنا تسيطر الدولة الإسرائيلية على المؤسسات التربوية والتعليمية وعلى رأسها المدارس ومناهج التعليم التي تُدرس للطلاب الفلسطينيين في الداخل الفلسطيني وتسيطر الدولة وتتحكم أيضا بميزانيات البلديات والمجالس المحلية، ومن الجدير بالذكر أن من يدرسون في المدارس ويعملون في البلديات والمجالس هم من الفلسطينيين العرب وجلهم مرتبطة حياته بالراتب والمعاش التي توفره الدوله الإسرائيلية، وهؤلاء يبررون خنوعهم ودورهم في تجهيل أبناء وبنات شعبهم بكونهم موظفي دولة يتبعون توجيهاتها التي إذا خالفوها سيعفون من العمل والوظيفه!...سيطرة عبر الراتب أدت إلى بروز شريحة فلسطينية كبيرة جاهلة وخانعة ولا علاقه لها بالهم الفلسطيني العام، ناهيك عن دور هؤلاء المعلمين ومدراء المدارس وموظفي البلديات [أيضا أصحاب المهن كالأطباء والمهندسين الخ] في تعميم الجهل الوطني وتمرير وترسيخ مبدأ الوظيفه والراتب فوق وقبل الوطن.. هؤلاء تظهرهم وتبرزهم إسرائيل كقدوة يقتدي بها مجتمع فلسطينيي الداخل.. وظيفة وبيت وراتب ومركبة وعاشت "إسرائيل"... على الجانب الآخر من الوطن تسير الأمور على نفس المنحى والنهج في جمهورية رام الله حيث تتحكم السلطه بالمدارس والمعلمين والموظفين والوظائف والميزانيات، وكل هذا مرتبط بالولاء للسلطة ونهجها المهادن للاحتلال .. هناك أيضا تأطرت ثقافة المصلحة والراتب قبل الوطن والقدوة هو من يملك الراتب والمقام والمال حتى لو كان سارقا أو مختلسا... في رام الله أيضا وظيفة وبيت ومركبة فارهة بقرض من البنوك وعاشت السلطة... الوطن والوطنية أمر ثانوي... الزرع الفاسد ملاحظة لابد منها وهي أن شريحة فلسطينية متوسطة خانعة قد نمت وتشكَّلت في مناطق السلطة يقتني جل منتسبيها السيارات والكماليات عبر القروض التي توفرها البنوك الفلسطينية.. يوهمونهم بمستوى الحياة الجيد عبر القروض ويلهونهم في الكماليات وسداد هذه القروض وآخر ما يفكرون فيه أنهم يعيشون تحت الاحتلال....

حال ما هو جار في قطاع غزة يختلف تماما؛ لأن الحصار والدمار لا بد له أن يخلق ظروفا قاهرة لا تصب في المحصلة في صالح القضية الوطنية الفلسطينية.. لا أدري إذا كان بمقداري أن أحكم وأجزم في حال الغزيين لأنه من المؤكد أنه لا يمكنني، ولا يمكن لأحد آخر أن يقنع والد أو والده يرون أبناءهم يتضورون جوعا في ظل حصار صهيوني عربي فلسطيني مشترك مفروض على قطاع غزة.. يقنعه بعدالة قضيته وهو في مرمى الجوع والهلاك....نقدر عاليا التضحيات الوطنية الهائلة التي يقدمها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، لكن هنالك من يريدون تركيع غزة ويجعلونها تنضم إلى قافلة التيه الفلسطيني...الزرع الفاسد الذي زرعه الاحتلال ومشتقاته لم يعد مشاعا وعشوائيا، لا بل إنه يزرع عنوة ويُعتنى به في كل أنحاء فلسطين.. الحصاد أمر من مُر، والغلة خيانة جماعية اسمية وموضوعية تمارسها أفراد وقطاعات فلسطينية ليست بالقليلة.. يخونون الوطن ويفضلون بقاء الاحتلال من أجل المعاش والعيش..حقيقة صادمة وواقع لا بد من الاعتراف به.. ليس كل فلسطيني فلسطيني وليس كل فلسطيني وطني... الزرع الفاسد والمفسد خارج الصف والسرب الوطني يغرد لصالح مصلحته، يمُر من جانب جندي صهيوني يعتدي على كهل فلسطيني ولا يتدخل ولا يعنيه الأمر، هجرته الشهامة والكرامة الوطنية إلى أبد الآبدين..برَّر ومرَّر الخيانه ألف مرة حتى أصبحت عادة يومية وحياتية ومجرد وجهة نظر؟!

كثير هو الزرع الفاسد في فلسطين، وكثير هو أيضا الزرع الفريطي الذي يتجلى في ثقافة الفصائلية والجهوية التي ساهمت وتساهم في تقسيم الشعب الفلسطيني، وتعيق وحدته الوطنية والميدانية، وتؤثر سلبيا على نضاله الوطني، وتؤدي فيما تؤدي إلى إضعاف الوطنية الفلسطينية التي من المفروض أن تكون بوصلة مشروع التحرر الوطني الفلسطيني، لا بل هنالك ظاهرة تحالف بعض الفصائل الفلسطينية مع أنظمة عربية تحاصر قطاع غزة جنبا إلى جنب مع الاحتلال الصهيوني.. الوطنية الفلسطينية تحتم على الفلسطيني إدانة وشجب أي  نظام عربي يحاصر قطاع غزه تحت هذه الحجه أو تلك الذريعة من جهة، وإدانة أي تنسيق أمني مع سلطات الاحتلال من جهة ثانية، وبالتالي يكون من يكون وكان من كان خائنا من ينسق مع الاحتلال، وخائن من ينسق مع نظام عربي يحاصر غزة.. خائن من يفضل الراتب والعيش على حساب قضية شعبه.. خائن من يروج لثقافة الخنوع..خائن من يرى الأقصى يدنس والقدس تُهود ويصمت على الأمر ..خائن موضوعيا واسميا كل فلسطيني دعم ويدعم الاحتلال بهذا الشكل أو ذاك من أجل مصالحه وعيشته التافهة.. خائن كل من صمت على هضم حق شعبه ودعم باطل الاحتلال.. خائن هذا المتعلم أو ذاك المثقف الذي لا يتبنى قضية شعبه بكل تشعباتها... اللاجئين.. الأسرى.. المحاصرين في الكانتونات الديموغرافية والجغرافية... القدس والأقصى..غزة. الخ من مقومات وثوابت وطنية فلسطينية.

اعتمد الاحتلال الإسرائيلي على أربعة عناصر سيطرة أساسية في محاولة فرض سيطرته على الوطن والشعب الفلسطيني: السيطرة الجغرافية والديموغرافية، ومن ثم السيطرة الاقتصادية والسياسية، ونجح جزئيا وكليا هنا وهناك في تطبيق وفرض هذه العناصر، لكن الأخطر هو نجاحه في خلق وصناعة الطابور الخامس الفلسطيني بواسطة السيطرة الاقتصادية والسياسية.. روابط القرى في ثمانينات القرن الماضي على كل عمالتها ونذالتها وتبعيتها للاحتلال لم تشكل خطرا على القضية الفلسطينية كما هو حال الخطر الذي يشكله الطابور الخامس في الوقت الراهن..انتفاضة عام 1987 كنَّست روابط القرى ومحت وجودها؛ لأن الشعب الفلسطيني كان في الميدان حرا طليقا؛ بينما اليوم هو بعيد عن نقاط التماس..قوات أمن وشرطة الطابور تقف حاجزا بينه وبين الميدان.. حرب السكاكين والمركبات وداعس يدور رحاها بين أبناء الشعب الفلسطيني والمحتلين رغم أنف الطابور الذي يقف متفرجا على جرائم الاحتلال بكل أشكالها.. شباب شبت، وهبت النيران في قلوبهم، وهبوا لنجدة ونصرة الأقصى والحق الفلسطيني.. !!

الشعب الفلسطيني كان دوما شعب الهبات والانتفاضات ومنارة نضال لكل شعوب الأرض، ومخزونه النضالي ما زال بخير، لكن هنالك من هم من بين ظهرانيي هذا الشعب يريدون بيع كامل حقوقه من أجل مصالحهم والعيش والراتب، هؤلاء المتشكلون في الطابور والمنتسبون إليه، موجودون كما ذكرت أعلاه في كل فلسطين، الزرع الفاسد.. دون اقتلاع هذا الزرع الفاسد من الأرض الفلسطينية أو على الأقل تحييده لن تقوم قائمة للشعب الفلسطيني...اقتلاع الزرع الفاسد سيمهد الطريق إلى اقتلاع الاحتلال عبر النضال الوطني الفلسطيني....دون السير في هذا المسار يستحيل تحقيق مطالب الشعب الفلسطيني والحفاظ على ثوابته...كُن وطنيا فلسطينيا لا فصائليا مصلحيا وضِع الوطن فوق كل الاعتبارات ومن بينها الحياتية والمعيشية.. لا تظن ولا تدع مجالا حتى للشك بأنك وأنت وأنتم من الأقلية السائرة في وعلى طريق الحق ..كُن على يقين أنك في صف الأكثرية الساحقة السائرة في طريق الحق الفلسطيني، بينما القلة القليلة من الزرع الفاسد تسير في ركب باطل الاحتلال...الزرع والاحتلال إلى زوال، طال الزمن أم قصر، بينما أنتم نشامى ونشميات فلسطين باقون في الوطن ما بقي الزعتر والزيتون وما بعد بعد تاريخ زوال الاحتلال والزرع الفاسد ..!!

*كاتب وباحث فلسطيني من النقب