كتاب عربي 21

في مواجهة "ملحد": ثورة دينية في "بار"

1300x600
غادرت القاهرة وفيها موجة من الإلحاد غير مسبوقة تتشكل، ويبدو أن أصداءها وصلت الآن إلى القائمين على برامج "التوك شو"، فشاهدنا أكثر من برنامج يستدعي بعض هؤلاء الملحدين، حيث يبدو شيوخ الأزهر في البرامج غير مستعدين للتصدي لهذا النوع من الأفكار، فردودهم لا تخرج إلا عن إطار قال الله، وقال الرسول، غير مبالين بأن هؤلاء لا يؤمنون بالله أو بالرسول!.

كان أحد الأصدقاء قد ألحد وجاهر بإلحاده، حتى صارت وظيفته: ملحد، فلا يمكن أن يتحدث في أي مجال آخر، يأتي إلينا في مقهى بوسط البلد، فيقطع حديثنا ويفرض أجندته هو بمبالغة واضحة، غير عابئ بمحاولات إسكاته، فلسنا مستعدين للسماع له، فنحن مشغولون بأمر آخر، وليس له أن يفرض حديثه علينا، وكنت دائما ما أفشل في إسكاته فقد بدا لي أنه يريد أن يشتهر بالإلحاد، وكنت أقول له: لقد انتقلت سريعاً من كونك ملحداً إلى مبشر بالإلحاد. 

 ينسي نفسه كثيراً، فيقسم بالله، ويلتمس الجدية في كلام أحدنا فيطلب منه أن يقسم بالله، فنضحك، ونطلب منه أن يبحث في أمهات كتب الملحدين فربما وجد فيها قسماً يليق بالمرحلة الجديدة، فحتى الكفار الأوائل الذين كانوا لا يؤمنون بالله، كانت عندهم ألهتهم التي يقسمون عليها، كاللات والعزي والهبل الأكبر.

 بدا لي صديقي كما لو كان "حالة نفسية"، تحتاج إلى طبيب نفسي أو مصحة، فليس متبحراً في العلم مثلاً وقد هداه تفكيره إلى الإلحاد، فلم يكن مشغولاً يوماً بالفكر الديني، وبدا لي كما لو كان قد ألحد، أولاً، وهو في مرحلة البحث عن أدلة تدعم موقفه.

 يظل نهاره يبحث عبر "جوجل" عن معلومة هنا، أو "خزعبلة" هناك، ويأتينا في "المساء والسهرة" على المقهى، فيقذف من فمه في سعادة وحبور ما قرأه، وكأنه توصل إلى اختراع علاج الفيروسات بالكفتة، فليس بباحث يبحث عن من يناقشه فيما استغلق عليه فهمه، إنما يردد اكتشافاته وكأنها حقائق علمية، وكان اللافت فيه أنه يعمل على التأثير في محيط أسرته بأفكاره.

 غادرت القاهرة، وكثيراً ما فكرت في أمره، وأحاول الوقوف بين الحين والآخر على أخباره عبر آخرين، ولدي يقين أنه سينتهي المطاف به في النهاية مجنوناً ينظم المرور في الشوارع، لأنه لم يلحد عن اقتناع، فالدوافع كما تبدو لي نفسية بحتة!.

 لقد عمل بالصحافة وهو طالب، وكان شاباً ناصرياً تعرض للاعتقال لأيام، ثم أنهي دراسته وألتحق بالجيش، وجاء للجريدة، وكانت قياداتها قد تغيرت، وعرض على العودة، ولأني لست على وئام مع عملية الخلط بين المهنة والسياسة، التي كانت سبباً في وجود نماذج شائهة من الصحفيين.. أنصاف صحفيين، وأرباع سياسيين، وأخماس مناضلين، فقد رحبت به على شرط أن يمارس العمل الصحفي وفق القواعد المهنية، وليس من منظور أنه زعيم، ووفقاً لهذه المعادلة فهو الآن "صحفي تحت التمرين"، ووافق!.

 على المستوى الشخصي فقد اكتسبت صديقاً، يتميز بالشهامة، لولا أنه في بعض تصرفاته فيه جاهلية، وصدرت جريدة "العربي"، التي يصدرها الحزب الناصري، يومياً، فانتابه الحنين للأيام الخوالي، ورأى أن مكانه هناك وليس في صحيفة "ليبرالية". ولم يعمر في "العربي" كثيراً، وانتقل لصحيفة أخرى، ثم أصدر بعد أن قيد في نقابة الصحفيين، صحيفة خاصة به، تهتم بالحوادث!.

 قبل ثورة يناير تذكرت أن له سنوات، يجلس معنا ولم يعد يتحدث في السياسة، حتى يبدو للجاهل أنه لم يكن له نشاطاً سياسياً في السابق، وقد انتابني إحساسا بالذنب من أن أكون أنا السبب في ذلك، فقد أخذ بنصيحتي واستقام أكثر مما ينبغي، وما كنت أهدف إليه ألا يتأثر عمله الصحفي بتوجهاته السياسية، لا أن يفقد أي اهتمام بالسياسة، ويصبح عديم الموقف والرأي السياسي.

 آخر نشاط لصاحبنا كان عقب غزو العراق، فقد شارك في المظاهرات، ثم توقف كلية، وجاءت مرحلة الحراك السياسي في مصر، بداية من سنة 2004، لكنه كان بعيداً عنها تماماً.

 وعندما قامت الثورة، تحرك بداخله السياسي والثوري، ورابط في "ميدان التحرير"، ويوم "موقعة الجمل" كنت أنا وهو وعدد من الزملاء، قد جمعنا تبرعات من الموجودين بالنقابة واشترينا بها مشروبات ومأكولات خفيفة، لهؤلاء المحاصرين في "التحرير"، ورغم أننا كنا حوالي عشرين فرداً، إلا أننا ظهرنا كقلة قليلة في شوارع وسط البلد الفارغة إلا من الشبيحة بأسلحتهم البيضاء، نخاف أن يتخطفونا.

 بعد الثورة، قلت له كنت أشعر بالذنب لأنني جعلتك تبدو بلا رأي سياسي، وقال: "منه لله حسني مبارك جعل الواحد منا ينشغل بلقمة العيش".. عندها أيقنت بأنني لم أكن السبب في حالة اللامبالاة السياسية التي كان عليها قبل يناير.

 في البداية اعتبرت أن إلحاده كنوع من إظهار الرفض على النظام الجديد، فقد حكم الإخوان. ولا أخفي أنني كثيراً ما اعتبرت حالته هي نوع من إظهار التفرد، فمصر كلها بعد الثورة، بمن في ذلك ربات البيوت، صارت تتحدث في السياسة، وقد وجد هو في الإلحاد ما يميزه عن غيره، فمعلوماته يتحصل عليها من "جوجل" مع سبق الإصرار والترصد.

 صديقي يفكر الآن في العودة، ليس عن إيمان، فلم يلحد عن إيمان حقيقي، ولكن لأنه لم يجد الحفاوة والاهتمام حتى في فضاء كان ينتظر فيه الاهتمام والرعاية والإنصات. وفي الأسبوع الماضي أصيب بصدمة أفقدته اتزانه!.

 لقد دخل "باراً" واكتشف وهو هناك، أن مسيحيين يجلسون بجواره، فانفرجت أساريره، ووجد الفرصة مواتية ليصدع بما يؤمن، وفي الحقيقة هو لا ينتظر فرصاً، لأنه ما أن يجلس في مجلس إلا وتحدث في قضيته الوحيدة، غير مكترث بكون الأجواء ليست مناسبة. 

 بعض الملحدين، والعلمانيين، يرون في المحيط المسيحي شعبيتهم، لأنه ما دام الملحد والعلماني هو في الأصل مسلم، فإن هجومه سيكون على الإسلام ورموزه، ولن يتطرق في الحالة العلمانية لرفض تدخل الكنسية في السياسة، ألم تر كيف يُحتفى في دوائر قبطية بكائن كسيد القمني؟!.

 تحدث صاحبنا عن الإلحاد وكيف أنه لا وجود لله أو الأنبياء، وانتظر ليجد استحساناً لكلامه فهو أولاً في "بار"، وهو ثانياً يحدث مسيحيين، لكن صدمته كانت عظيمة عندما هاجمه هؤلاء بشدة، وانفعل المسلمون في "البار" ضد هذا الملحد الذي ينكر وجود الله، ويتطاول على الأنبياء، واحتشد صاحب "البار" و"الجرسونات" ضده، وعلت أصواتهم وكادوا أن يعتدوا عليه ومن معه من غير الملحدين!.

 وهو ينصرف أخرج الحساب، ليعطيه لصاحب "البار"، والذي فاجأه بقوله: "حد الله بيني وبين فلوسك".. وفي ذهوله تساءل صاحبنا: "حد الله؟!".. أتقول: "حد الله؟!.. الله يحرم الذي تبيعه ويطفحونه".
ولم ينس صاحب "البار"، وهو يودعه ومن معه شبه مطرودين، أن يخبره بأن لديه بارين آخرين في منطقة وسط البلد، وأنه ينبه عليه بعدم دخول أياً منهما!.

 خرج صاحبنا الملحد، وهو يقول إنه يشعر بأنه دخل مسجدا بالخطأ، وأعرب عن شعوره بالصدمة لموقف المسيحيين. ورد عليه من معه، وألا تشعر بالصدمة لموقف كل من في "البار" بمن فيهم صاحبه؟!
حكاية مضحكة حقاً، ولو أنني شاهدتها في مشهد سينمائي ما صدقت أنها حدثت فعلا، بيد أن هذا ليس هو الموضوع، والموضوع هو صديقي الذي مللت الجلوس معه قبل مغادرتي لمصر، فقد يحدث عندما أعود إليها أن أجده قد عاد، ليس عن إيمان وكفر فلا أظنه يمارس الحادة عن إيمان، فضلاً عن أنه وهو مسلم كان مثل الملايين الذين هم مسلمون لأنهم ولدوا هكذا.

 فاللافت، أنني لم اعثر في البرامج التلفزيونية التي ناقشت موجة الإلحاد في مصر، من هو متمكن من أدواته، أو مذاكر للموضوع، فالحاصل هو ردود لا تخرج عن قال الله وقال الرسول، مع أناس يقولون إنهم لا يؤمنون بالله أو الرسول!.

 قد يكون الأمر في عهد مرسي حالة من التمرد، لكني اعتقد أن شيوعه الآن هو حالة نفسية، فالانقلاب العسكري جر على البلاد أمراضاً نفسية أصابت حتى هؤلاء الذين ناصروه، ونظروا إليه على انه "الخلاص" من الحكم الديني!.

 نحن بحاجة إلى فريق يتفقه في الرد على هؤلاء، ليؤمن من يؤمن على بينة، ويلحد من يلحد على بينة!.