كتاب عربي 21

الإخوان المسلمين والإعلام الداخلي - ملفات إصلاحية

1300x600
تمثلت النقلة المعلوماتية الهائلة في مجال الاتصالات وأدوات التواصل "الافتراضية" وتعدد مصادر التلقي التي أصبحت متاحة للصغير والكبير في تحد كبير جدا للأنظمة المغلقة والتي تعتمد أحادية المصدر في التوجيه وبناء المفاهيم وعملية التربية. ويعتبر البناء الداخلي للإخوان أول المتأثرين بهذه النقلة، فالنموذج التربوي والتوجيهي داخل الإخوان يعتمد على طريقة "جنينية" في التلقي، حيث يكون "المسؤول" هو محور هذه العملية، فمن خلال "الأسرة" يتم تلقين المفاهيم والتدريب، ومتابعة العمل وهذا اللقاء أسبوعي. وربما يكون للفرد لقاءات إدارية أخرى، لكنها تظل إجرائية لا تربوية، بخلاف اللقاء الأسبوعي ولقاء الكتيبة الشهري ونصف الشهري، والمعسكر السنوي أو نصف السنوي حسب الظرف الأمني.

كانت هذه الآلية تعمل جيدا في بيئة مغلقة، وتوفر للإخواني حالة تشبع داخلي، وتحافظ على حالة من حالات الاستقرار والرضا التنظيمي، ولكن بعد ظهور مجتمع المدونات والمواقع الدينية والسياسية، وبروز بيئة متعددة المصادر أضحت آلية تلقين التصورات عن الواقع والمستقبل يعتريها العجز تدريجيا، فلم يعد المربي المصدر الوحيد أو حتى الرئيسي للمعلومة، كما أن المصادر التي يتعرض لها الفرد الإخواني أصبحت شيئا فشيئا أقوى من المصادر الداخلية، كما أن كثرة التعرض للمصادر الأخرى والاطلاع على حراكات وسياقات ثقافية وفكرية أخرى وإشكالات فلسفية وعقدية وسياسية وطروحات نقدية وغيرها -أضحت كثرة التعرض لها- محركا للشرود خلفها والتمرد، وارتبط في العقول التقليدية داخل الجماعة أنه كلما اندمج "الأخ" في دوائر المصادر هذه والشرود خلف أسئلته ونهمه العقلي، يصبح قد التفت عن الحركة وغرق في التنظير، وأصبحت تلك المسارات ذات صبغة منبوذة، وغير مرحب بها، وبدلا من أن تعالج الجماعة عجز المصادر لديها، اتجهت إلى أسلوب الدعاية السوداء لتحصين الشباب من كثرة المصادر والتعرض لها بالتشكيك في خلفياتها الأمنية أو الفكرية، أو إلصاق تهم اللاجدوى بها، وهي طريقة "سلفية" معهودة في تحصين قواعدها من أي مصادر أخرى.

وإن ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي والمدونات وطغيان وسائل الإعلام في موجات من الاضطراب الداخلي في جماعة الإخوان، إلا أن الجماعة استطاعت أن تحافظ على صيغة من التماسك منذ الـ2005 وحتى الثورة، لكن مع خسائر كبيرة أيضا تمثلت في شرود كوادر شبابية مهمة أنشأت لاحقا خارج الجماعة انجازات فردية وجماعية، لكن التماسك الظاهر للجماعة أعطاها ثقة في النمط المتبع، وكالعادة فأي هزة لا تحدث شروخا كبيرة، فهي "انتصار" بالنسبة للعقل الجمعي للدعوة، مع أنه يمكن اعتباره مؤشرا لموجات أكبر وأقوى، لكن ثقافة التنبؤ والاستشراف أمر غير متعارف عليه داخليا.

لكن انقلاب 3 يوليو شكل هزة داخلية كبيرة داخل الإخوان، وأضعف لوقت غير قليل دوائر التأثير الداخلية، كذلك أضحت الرواية الرسمية الداخلية تلقى الكثير من عدم التقديس وأحيانا السخرية، والرفض الكامل، وإن كانت الشراكة في الأزمة حافظت على ما تبقى من روابط ووفاء، إلا أنه تدريجيا فقدت جماعة الإخوان حجم تأثيرها الداخلي ونفوذها الفكري على الأعضاء، دون أن تظهر هذه الانعكاسات بشكل كبير، لكن مع بروز نجم تيارات إسلامية أخرى، وبروز "نجومها" كنجوم إعلاميين وفكريين، ومع خطاب يمتاز بالمصداقية والعمق، مع لمسة نقد للجماعة، وظهور مشاريع ميدانية في مناطق قريبة من الصراع المصري أصبحت.

بناء منظومة إعلام داخلي إذا لاتقل أهمية أبدا عن منظومة الإعلام الخارجي للجماعة، فأدوات الضبط والسيطرة في العالم كله تجاوزت منطق الأمر المباشر والقوة، وأضحت تستخدم الحصار العقلي بالروايات المتعددة التي تصب جميعها في مصلحة المصدر، وبالتالي لم تعد الأسرة والمربي واللقاءات قادرة على مواجهة الخطر الخارجي، بل لابد للجماعة من إنشاء جهاز إعلام داخلي يتولى من بدايته صناعة وتقديم الرموز، كما يتولى إعادة صياغة الخطاب الفكري للجماعة، وعرضه بطريقة تستطيع المنافسة في بيئة بريق الأفكار الأكثر خبرة في توظيف الميديا، كما أنه يجب تجاوز النمط المرتبك والفوضوي للصفحات والمنصات التي تعمل تحت عباءة الجماعة، لكنها تعيد إدراج ذات الخطاب الإعلامي التقليدي الخاص بمواقع إخوان أون لاين وأخواته أو حتى تقليد صرعات إعلامية جاءت من سياق ليبرالي متحرر، ربما يتعارض مع جوهر السياق الإسلامي، وبالتالي  يكون تأثير تلك المواقع والمنصات هو إضعاف لمنظومة السيطرة داخل الجماعة من حيث مظنة تقويتها !.

فمقارنة صغيرة للمتلقي بين مصادره الرسمية ومصادر الآخرين ستصيبه بكثير من السخط وقلة الثقة والرفض.

إذا لم يتم بناء مثل هذه المنظومة الداخلية وتطويرها خلال القريب العاجل، فإن الجماعة أمام شكل من أشكال التحلل البطيء، حيث أن روايتها الداخلية فضلا عن روايتها الخارجية أصبحت غير مُقنعة وغير جاذبة، وبالتالي تفقد السيطرة الداخلية بالتوازي مع السيطرة الخارجية المفقودة منذ فترة، وهذا السيناريو هو أسوأ سيناريوهات التحلل بالتوازي مع موجات اليأس من الواقع والحراك !

كل ما قلنا هو نبذة مختصرة عن ملف بعينة عاجل لمواجهة أزمة الواقع الحالي، لكنه لا يغني مطلقا عن مراجعة السياق الفكري والفلسفي للجماعة، كذلك مراجعة سلوكها السياسي وهيكلها الاداري، ورؤيتها الإقليمية، وكل ذلك سنتعرض له في سلسلة مقالات "ملفات إصلاحية" لاحقا، وأما عن تفصيل عملية إنشاء مثل هذا الجهاز الإعلامي فمكانه ليس المقالات، وإنما بيئة العمل.