كتاب عربي 21

أضواء على الهدنة

1300x600
أولاً، اتفاق الهدنة الأخير بين المقاومة وإسرائيل لم يحقق لأهل غزة كل ما كانوا ينشدون، ولكنه في نفس الوقت لم يحقق للإسرائيليين شيئاً مما كانوا يأملون. ولعل السبب في توصل الطرفين أخيراً إلى اتفاق لوقف لإطلاق النار هو قناعة كل منهما أنه لا سبيل إلى ما هو أفضل في ظل الظروف السائدة.

فالإسرائيليون، رغم ما وجدوا من دعم عربي غير مسبوق لحربهم على غزة، بل وتحريضاً من هذه الأطراف العربية على إنزال المزيد من الدمار بقطاع غزة ضغطاً على حماس حتى تقبل بوقف إطلاق النار، إلا أنهم لم يتمكنوا من شل قدرات المقاومة ولا من فرض الاستسلام عليها.

أما المقاومة، ورغم ما لديها من شعب غزي محاصر يساندها رغم الآلام، ويشد على عضدها رجاء أن يفضي الصراع الأخير إلى وقف الحصار المفروض على القطاع منذ ما يقرب من ثمانية أعوام، إلا أنها لم تتمكن من انتزاع ضمانات برفع الحصار.  

ثانياً، لقد توقفت المدافع والصواريخ، وتلاشى أزيز الطائرات، إلا أن المعركة الإعلامية مستمرة، حيث سيسعى كل طرف إلى الظهور بمظهر المنتصر المحقق لشروطه. الإسرائيليون يعتبرون استمرار الحصار نصراً، بينما تعتبر المقاومة فشل الإسرائيليين في فرض نزع السلاح نصراً.

إلا أن ثمة فرقاً مهماً بين الطرفين، وهو أن الجمهور في غزة بعمومه يشعر بالنصر ويعبر عن ذلك بالابتهاج والاحتفال، بينما الجمهور في الجانب الإسرائيلي مرتبك وبعضه مكتئب، لأن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو كان قد بدأ العدوان على غزة بخطاب سقفه مرتفع جداً حده لا يقل عن الإصرار على تقويض البنية العسكرية لحماس والمقاومة، وتدمير الأنفاق ومنع الصواريخ، ولم يتحقق شيء من ذلك، بل أصبح المطلب الإسرائيلي قبيل السادس والعشرين من أغسطس هو إقناع حماس عبر التدمير العشوائي للمساكن واستهداف الأبراج السكنية العالية بالعودة إلى طاولة المفاوضات في القاهرة أملاً في التوصل إلى وقف لإطلاق النار، بعد أن هجر عشرات الآلاف من سكان المناطق الجنوبية في فلسطين المحتلة وبدأت الناس تقلق إزاء احتمال تعطل الدراسة، ناهيك عما لحق بالاقتصاد الإسرائيلي من خسائر فادحة وبسمعة إسرائيل على المستوى الدولي من أضرار. 

ثالثا، رغم الفارق الكبير في القدرات العسكرية، إلا أن المقاومة في غزة أبلت بلاء حسناً، وكادت تتفوق ميدانياً على الإسرائيليين الذين صبوا جام غضبهم على المدنيين، وسيلة للضغط على المقاومة. ولعل الأيام القادمة تكشف بجلاء عن أن القدرات العسكرية للمقاومة في غزة لم ينلها كثير من الضرر، وهذا يثبت بأن فصائل المقاومة، وعلى رأسها كتائب الشهيد عز الدين القسام، طورت أساليبها الدفاعية والهجومية على حد سواء، لدرجة أن الإسرائيليين لم يخفوا شعورهم بالإحباط من عدم قدرتهم على النيل من سلاح المقاومة. يضاف إلى ذلك بعض الإبداعات غير المسبوقة في النزالات السابقة بين المقاومة الفلسطينية والإسرائيليين، من مثل ما رأيناه في الأنفاق، والصواريخ بعيدة المدى وكذلك الطائرات من غير طيار. 

رابعاً، لا توجد ضمانات يمكن أن يركن المرء إليها في وقف إطلاق النار مع الكيان الصهيوني. ففي كل المرات السابقة كان الإسرائيليون هم الذين ينقضون العهد وينتهكون الهدنة، وإن تغيرت في كل مرة الأسباب والمبررات. كما أن استمرار الحصار بانتظار المفاوضات الموعودة بشأن الميناء والمطار بعد شهر من سيران وقف إطلاق النار يعني أن أسباب التوتر مازالت موجودة، إضافة إلى أن كثيراً من أسباب التوتر مرجعها إلى الاحتلال والاستيطان في الضفة الغربية.

وأرى شخصياً أنه ما لم يتم التفاهم من خلال وساطة دولية نزيهة وضامنة على حزمة متكاملة يتم من خلالها إنهاء الاحتلال في الضفة وإنهاء الحصار في غزة، فإن جولات من الحرب ستندلع لا محالة في المستقبل القريب أو الأبعد قليلاً من القريب قليلاً.  

خامساً، إن الدور الذي قامت به مصر خلال الحرب هو الدور الذي أناطه بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي لم يثق بأحد سوى عبد الفتاح السيسي وسلطته ليسهر على مصالح إسرائيل في كل جولات المفاوضات. ولذلك رفض الإسرائيليون كل عروض الوساطة الأخرى التي تقدمت بها قطر وتركيا ودول في الاتحاد الأوروبي وحتى الولايات المتحدة الأمريكية.

والدور المصري لم يكن معزولاً عن تحالف عربي إسرائيلي غير مسبوق شمل كلاً من إسرائيل ومصر والسعودية والإمارات وبدرجة ما الأردن. لقد كان دور مصر "الوسيطة" في هذه الحرب أكثر انحيازا لإسرائيل من دور الولايات المتحدة في الوساطات التي كانت تحصل في الماضي كلما تفجر الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والسبب هو العداوة الشديدة والكراهية العميقة التي توجد لدى نظام الانقلابيين في مصر تجاه حركة حماس بشكل خاص وتجاه المقاومة الفلسطينية بشكل عام.

فالنظام المصري الحالي لا يمارس السياسة انطلاقاً مما تعارفت عليه الأمم من قيم وأعراف وحسبة مصالح، وإنما انطلاقاً من الكراهية والحقد. لقد عبرت مصادر إسرائيلية قبيل التوصل إلى الهدنة يوم الثلاثاء عن قلقها من أن السلطة في مصر تزايد على إسرائيل في التشدد مع الوفد الفلسطيني المفاوض لانتزع أكبر قدر ممكن من التنازلات لصالح إسرائيل، مما أطال -من وجهة نظر هذه المصادر الإسرائيلية- أمد القتال أكثر مما هو مطلوب. حتى إن بعض الإسرائيليين قال صراحة بأن حرص مصر على الإضرار بحماس يدفعها فيما يبدو إلى إطالة أمد الحرب، الأمر الذي قد ينعكس سلباً فيما بعد على إسرائيل ذاتها. 

سادساً، فيما يتعلق بما هو آت، لست في وارد التوقعات ولا التنبؤات، إلا أن الواضح بالنسبة لي أن هذه الحرب ستكون لها تداعيات على السياسة الداخلية في إسرائيل وهذه بدورها ستؤثر في مآلات الأمور. من شروط هذه التهدئة أن تسأنف المفاوضات حول الميناء والمطار والأسرى بعد شهر، لكن سيظل ذلك متوقفاً على مخاض السياسة داخل إسرائيل.

أما بالنسبة لأهل غزة، فليس أمامهم خيار سوى الصمود واستمرار النضال حتى يرفع الحصار عنهم تماماً، وليس الحصار المفروض من قبل الإسرائيليين فحسب بل ومن قبل نظام الانقلابيين في مصر. علم غد لا يعلمه إلا الله، ولئن شاء الله وطرأت تغيرات جوهرية على الوضع العربي، وانهار التحالف “الأعرابي - الصهيوني”، فإن ظروف المقاومة ستتحسن بلا شك، بإذن الله.