كتب عبد الوهاب بدرخان: فشل نوري المالكي، كما فشل بشار الأسد، في إدارة التعدّد الطائفي في بلديهما، ولم يتمكّنا في المنعطف التاريخي الصعب من تغليب المشروع الوطني على الأجندة المذهبية. يُنسب اليهما هذا الإخفاق الفادح لأنهما في موقع القرار والمسؤولية، عسكرياً وأمنياً وسياسياً، وسنحت لهما كل الفرص لمدّ اليدّ الى جميع مكوّنات شعبيهما، لكنهما فضّلا المشروع الإيراني: إمّا الحكم بالإخضاع، أو الذهاب الى تقطيع أوصال البلدين العربيين حتى لو اقتضى الأمر إشعال فتنة سُنّية - شيعية، وحتى لو تطلّب التوسّل بالإرهاب والإرهابيين.
طوال عامين ونيّف لم يرتكب تنظيم «
داعش» أي خطأ يمكن أن يربك نظامَي دمشق وطهران، بل كانت تجربتهما معه شاملة المكاسب، فهو «الفزاعة» التي تبعد أي تدخل اميركي، وهو الاشتباه الذي يلوّث سمعة المعارضة ويرشّح فصائلها الجهادية أو «التكفيرية» (وفقاً للمصطلح المفضل لدى الإيرانيين) للوائح الإرهاب الغربية. ورغم أن «داعش» كان مزعجاً لنظام بغداد إلا أنها تعايشت مع تفجيراته، لأنه مفيد أيضاً في وصم محافظات السُنّة بالتطرف والإرهاب لتبرير عدم النظر في مطالبها وللتشهير بأقطابها وإقصائهم فلا يبقى سوى المدعو «أبو بكر البغدادي» زعيماً أوحد لها. لكن في الهجوم على الموصل بدا كما لو أن «داعش» انقلب على الدور المُعطى له. هل هذه هي «الخدعة» التي تحدث عنها المالكي ولم تكن في حساب قاسم سليماني؟ الجواب: قصف طيران النظام
السوري، للمرّة الأولى، مواقع «داعش» في الرقّة والحسكة.
في النهاية كان «القاعدة» كرة ملتهبة تراكلها نظاما دمشق وطهران لتسجيل أهداف غداة «مونديال» الغزو الأميركي الذي أسقط نظام صدّام حسين واستشعارهما بأن واشنطن تطوّقهما من كل الجهات وتبيّت أيضاً لتغييرهما. وبعدما زال الخطر باشر الأميركيون والإيرانيون اتصالات علنية وسرّية لتقاسم النفوذ في العراق، وتزامن ذلك مع انكماش «الحاضنة السُنّية» للتنظيم وولادة «صحوات العشائر» السنّية التي أجبرته على الإنكفاء وساعدت في الإيقاع بالعديد من عناصره اعتقالاً أو تصفيةً. لكن المالكي كافأ «الصحوات» بالاستغناء عن معظم أفرادها ولم يهتمْ بدعوات ملحة من الأميركيين عام 2008 لتعزيز التحسن الأمني بالشروع في عملية للمصالحة الوطنية، فكان أن عاد «القاعدة» مجدداً، وقد أصبح «داعش»، وراح يستهدف خصوصاً السُنّة الذين سبق أن قاتلوا ضدّه.
في نهاية العام 2012 وقع المالكي في الأزمة المستمرّة بعدما أنجز استعداء المحافظات السُنّية التي بدأت اعتصاماتها الاحتجاجية وحافظت على سلميّتها طويلاً رغم الاستفزازات. وفي منتصف ذلك العام كانت عوارض الانهيار بدت على النظام السوري مع اندلاع معركتَي دمشق وحلب. في هذه الظروف تولّت ايران ربط الأزمتين وإدارتهما، وبموازاة الاطمئنان الى صلابة الموقف العسكري للمالكي داخلياً استلزم التخطيط لتغيير موازين القوى في سورية تجنيد «حزب الله» وميليشيات عراقية، كما تطلّب في الوقت نفسه العودة الى استخدام ورقة «داعش» في سيناريوين متشابهين: «دعشنة» مناطق المعارضتين السورية والعراقية لإفساد قضيتهما، وهو ما حصل. فحتى التطوّر الأخير في الموصل، ورغم أنه حمل ملامح «انتفاضة شعبية»، ارتكب الخطأ المحسوب ايرانياً، فمن يمشي وراء «داعش» سيخسر بلا شك.
لا تخلو السياسة الإيرانية من ملامح سخرية، سوداء وعدوانية طبعاً وتطبّعاً، من الخصوم والحلفاء، ومن الأعداء المفترضين دولياً، فهي تمضي في حراكها، أو بالأحرى في تخريبها، والآخرون جالسون في مقاعد المتفرّجين. وها هي «تقترح» الآن، بعبثية كاملة، أن «داعش» الساعي الى «دولة اسلامية» يصلح للاستخدام بغية افتتاح مسلسل التقسيم في العراق كما في سورية. أليس اسمه «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، ألم يحذّر أهل الموصل من مواصلة تسميته «داعش» مفضّلاً أن يُشار اليها اختصاراً باسم «الدولة»، ألا يحلم بربط نينوى والأنبار بصلاح الدين وديالى شرقاً وبدير الزور والرقة فحلب وحماه وإدلب غرباً؟
بعد اجتياح نينوى لازم اسم «داعش» الشاشات، وبدا جمهور عربي كبير حائراً لا يعرف ماذا يجري: «داعش مع مين بالظبط»؟! فهو مع الأسد في سورية وضدّ المالكي في العراق ومع ايران في البلدين. في بغداد كادوا يبثّون الخبر كـ «بشرى سارة»، فالجيش انهار لكن «التماسك» الحكومي والسياسي استمر. لم يكن هناك انهيار بل انسحاب. وفي النهاية تبيّن أن هذا الجيش الذي صُرفت عليه مئات بلايين الدولارات هو جيش نوري المالكي وليس جيش العراق وكلّ ما اهتم به هو حماية مرقدَي الإمامين الهادي والعسكري في سامراء. كانت قوات صدّام حسين أُذلت وهي تتقهقر من الكويت نحو العراق، وكان إعلام النظام يصدح بـ «انتصاراته». قوات صدّام انهارت تحت نيران تحالف دولي وفي غير أرضها، فهل كانت قوات المالكي هي الأخرى في أرض غريبة؟
صدّقوا أو لا تصدّقوا: استطاعت «داعش» أن تستغفل الجنرال قاسم سليماني، حتى أنه وهو الذي يتحدّث عن العراق (وسورية ولبنان) باعتباره الحاكم الفعلي لم يتلقَّ أي اشارة الى وهن أصاب القوات الحكومية، بل «انهارت» من دون أن تستأذنه، والواقع أنها انسحبت بإيحاءٍ إنْ لم يكن بأمر منه. وفيما يقاتل عشرات الآلاف العراقيين في سورية الى جانب النظام لم يصدف أن وُضعوا في مواجهة مع مقاتلي «داعش» الذين قال المالكي إنه في صدد سحقهم، فكيف يكونون «حلفاء» في سورية و»أعداء» في العراق. تلك هي عبقرية سليماني، المصنِّع الحقيقي لتنظيم «داعش» ومهندس عملياته. لكنه لم يقدّر، على ما يبدو، أن التحوّلات في المحافظات السُنّية يمكن أن تؤدي الى «تحالف الضرورة» بين «جيش النقشبندية» (فلول صدّام) و»داعش» ومجموعات عشائرية مسلحة سئمت أو يئست من «حكم سليماني - المالكي».
نتيجتان لما حدث ويحدث: الأولى، الأفضل أن يقاتل السُنّة بعضهم بعضاً في مناطقهم لئلا يدخلها جيش الشيعة لمقاتلة السُنّة فيقال عندئذ إنها حرب مذهبية. كان المالكي يصرّ على دخول الجيش لكن لكسر الاحتجاجات السُنّية أولاً ثم لضرب «داعش»، ولما مُنع راح يقلّد الأسد فيقصف المدن والبلدات من بعيد، وأحياناً بالمروحيات، بل هدّد أحد ضباطه بالبراميل، وكانت الحصيلة في الأسبوعين الأخيرين أكثر من عشرين ضحية من المدنيين يومياً، ما أتاح لـ «داعش» أن تقود ما وصف بأنه «انتفاضة شعبية» سنّية. أما المحاولة الأكثر «سخريةً» فهي استنجاد المالكي بالولايات المتحدة بالتزامن مع اعلان طهران استعدادها لمؤازرة الأميركيين في الحرب على الإرهاب. في سورية، كانت التجربة أكثر اثارة، اذ لم تؤدِّ فقط الى قتالٍ سُنّي («داعش») - سُنّي («الجيش الحر») بل الى حرب «القاعدة» («داعش») ضد «القاعدة» («جبهة النُصرة»)، والأهم أن سورية الغارقة في حال أفغنة على صوملة على عرقنة أحدثت الطلاق غير المعلن «رسمياً» بين «داعش» و»القاعدة» تمهيداً لإعلان موت الأخير. ومنذ غداة غزوهم افغانستان يعرف الأميركيون أن ايران وضعت يدها على جزء مهم من تنظيم «القاعدة» وراحت تعيد انتاجه وتستخدمه، لكن واشنطن فضّلت الصمت مثلما فعلت حيال التدخل الإيراني في سورية، رغم أن جنرالات البنتاغون، خلافاً للسياسيين، يصرحون من حين لآخر بأن «رعاية ايران للإرهاب» مصدر قلق لهم.
أما النتيجة الثانية فهي اكتشاف ايران أن هناك من توصّل الى استخدام «داعش» ضدّها، ما أشعرها بأن مدبّري الحدث يريدون تخريب المفاوضات النووية، لذا استنفرت الجميع، بدءاً من مرجعية السيستاني الى مقتدى الصدر، لإشاعة مناخ فتنة كبرى. غير أنها غير مضطرة لخوض حرب، بل قد تعجّل بفتح الخرائط لإنجاز تقسيم وفقاً لموازين القوى على الأرض، وليس بموجب «الفيديرالية» كما يلحظها الدستور العراقي، ولا نتيجة توافق دولي - اقليمي في ما يخصّ سورية.
(الحياة اللندنية)