كتاب عربي 21

مهرجان عودة الدولة واحتفاء النظام العربي الرسمي بها

1300x600
بالرغم من فتور أيام الانتخابات الرئاسية المصرية الثلاثة وعزوف المصريين عن الذهاب لصناديق الاقتراع، كانت مراسم تنصيب الرئيس المصري الجديد، عبد الفتاح السيسي، احتفالية صارخة. لم تقتصر هذه المراسم على أداء الرئيس القسم أمام الجمعية العامة للمحكمة الدستورية، ولا خطابي نائبي رئيس المحكمة المثقلين بالرسائل السياسية، بل وتواصلت في باحة قصر الاتحادية الشهير، القصر الشاهد على مصر وتحولاتها خلال المئة عام الماضية، وفي باحة قصر القبة الهائل.

في أجواء لم تعرفها مصر الجمهورية من قبل، دخل الرئيس المصري مقر الحكم لاستعراض حرس الشرف، عزفت الموسيقى النشيد الرسمي وأطلقت المدفعية طلقاتها، وحلقت طائرات سلاح الجو في سماء القاهرة، بينما احتشد عدد من الملوك والأمراء ومندوبي الحكام والرؤساء العرب، وممثلين عن الدول الغربية وغير الغربية. صافح الرئيس ملك الأردن، أمير الكويت، ولي العهد السعودي، ولي عهد إمارة أبوظبي، ملك البحرين، الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وعدداً آخر من المشاركين العرب وغير العرب في احتفال التنصيب غير المسبوق، وعلى خلفية من أبهة القصور المصرية الرسمية، وجلال الدولة المصرية وطقوسيتها. حتى إيران، التي مثلها مساعد لوزير الخارجية، ولبنان، الذي تمثل برئيس البرلمان نبيه بري، لم يغيبا عن تنصيب رئيس الجمهورية المصرية، التي تصورها كثيرون خلال السنوات القليلة الماضية حارسة لمصالح السنة العرب في مواجهة الاندفاعة الإيرانية ذات السمات الطائفية. 

هذه بالتأكيد مراسم تنصيب لم تنظم لمحمد مرسي عند انتخابه رئيساً في صيف 2012. جرت انتخابات الرئاسة الأولى بعد ثورة يناير في أجواء بالغة الحماس والمنافسة والأمل. وبخلاف انتخابات ايار/مايو 2014، وقف المصريون في صيف 2012 بعشرات الملايين أمام مراكز الاقتراع، وأدلوا بأصواتهم في جولتين متتاليتين. وعندما أعلن فوز مرسي، بفارق ليس كبيراً من الأصوات عن منافسه، أقسم الرئيس المنتخب اليمين أمام المحكمة الدستورية، ثم عاد ليقسم من جديد أمام مئات الألوف من أبناء الشعب المحتشدين في ميدان التحرير. دخل مرسي مكتبه بدون احتفال رسمي، ولا طلقات مدفعية، ولا حضور رسمي عربي أو غير عربي؛ وبدا في لقطة جلوسه الأولى في غرفة مكتبه أنه أكثر قلقاً على قدرة المقعد على تحمل ساعات العمل الطويلة منه على طقوس التنصيب واحتفاليته. 

كانت مراسم تنصيب مرسي، إن صح وصفها بالمراسم، شعبية، ثورية، استبطنت الشعور بثقل العبء وخطورة المسؤولية، بينما اتسمت مراسم تنصيب السيسي بالفخامة، والاستعراض الاحتفالي، والحرص على الحشد الرسمي، العربي والدولي، وتوكيد ما يعنيه حكم مصر من هيبة وسطوة وتعال. فكيف ولماذا حدث هذا الافتراق بين مناسبتين يفترض أنهما متشابهتان وتتعلقان بمنصب واحد، وقصر الحكم نفسه، وعاصمة البلاد ذاتها؟

في أحد وجوهها، عكست مراسم تنصيب الرئيس الجديد شعوراً بالأزمة، وفي وجه آخر لها، عكست
شعوراً بالانتصار والفوز. تتعلق الأزمة بشرعية الرئاسة الجديدة، التي ولدت من أيام الاضطراب والقلق وفقدان الاتجاه بين 30 حزيران/يونيو و3 يوليو/ تموز 2013. لم تكن رئاسة السيسي ممكنة، بأي حال من الأحوال، لولا الحشد الشعبي، المتنازع حول حجمه، في 30 حزيران/يونيو من العام الماضي، الذي مهد الطريق لانقلاب 3 تموز/يوليو. احتدم الجدل لفترة، بالطبع، حول ما إن كانت عملية إطاحة الرئيس مرسي ثورة أو انقلاباً، ولكن الأرجح أن هذا الجدل قد تراجع الآن، بعد أن أصبح صاحب قرار الانقلاب هو نفسه الرئيس الذي احتل الموقع الذي أفرغ بإطاحة رئيس الجمهورية المدني الأول في تاريخ الجمهورية، والأول الذي ينتخب بإرادة حرة من الشعب. ولشهور طوال، أغرق الجدل حول شرعية وتصنيف عملية إطاحة مرسي، بحملة هائلة لتوكيد شعبية قائد الجيش ووزير الدفاع، ليس فقط لأن صورته أصبحت إحدى ملامح العاصمة المصرية الأساسية، ولكن أيضاً لمشاهد التجمعات الشعبية وغير الشعبية المؤيدة، وإطلالات المثقفين والكتاب المتكررة على شاشات التلفزة، التي تعلن ولاءها له، وتشيد بحكمته وقيادته، وتؤسس لصعوده الوشيك إلى مقعد الرئاسة. وقد وصلت ثقة المرشح السيسي بتأييد الشعب والتفافه حوله أن تجنب بالفعل أية حملة انتخابية، ولم يكترث بطرح أي مستوى من البرامج لرئاسته، ولم يقم بجهد يذكر لكسب أصوات الناخبين سوى استقبال عشرات من المؤيدين من الفئات الاجتماعية والمهنية المختلفة في مقر إقامة أشبه بالسري.

في يومي الانتخابات الرئاسية، 26 – 27 أيار/مايو، وبالرغم من أن الجميع كان يعرف أن شرعية الرئيس المقبل ترتبط بنسبة المقترعين وليس بحجم فوز المشير السيسي، امتنع المصريون، في مفاجأة لم يتوقعها أحد، عن التصويت. ولم يجد تمديد التصويت ليوم ثالث شيئاً. لماذا قررت أغلبية المصريين عدم المشاركة في مهرجان الانتخابات، وتوفير دعم شعبي للعملية الانتخابية، هو سؤال يصعب تحديد إجابة واحدة له. ولكن المؤكد أن الشعب قرر معاقبة المرشحين، وإفهام السيسي، الذي كان توقع ذهاب أربعين مليون مصري لمراكز الاقتراع، أن أحداً لا يملك الشعب ولا إرادته. افتقد مسار 3 تموز/يوليو للشرعية من البداية، وأحاطت به الشكوك، وليس المظاهرات اليومية وحسب، طوال الشهور الاحد عشر الماضية. ولكن مقاطعة الأغلبية للعملية الانتخابية فاقم الأزمة وأفقد الرئيس الجديد الأداة الوحيدة التي كان يمكن أن تعطي رئاسته شيئاً من الشرعية.

من جهة أخرى، عكست مراسم التنصيب مناخ انتصار كذلك، ليس انتصار الرئيس الجديد، الذي أدرك الجميع أنه سيصل إلى قصر الاتحادية مهما كانت الظروف، بل انتصار الدولة المصرية. بغض النظر عن عدد من أدلوا بأصواتهم، وعن شرعية المسار كله؛ بغض النظر عن عدد من تبقى مؤمناً بهذا المسار، وعن حجم المعارضين، وعن الانقسام السياسي والاجتماعي الفادح؛ بغض النظر عن عدد المعتقلين، وعن عدد المحكومين بالإعدام في قضايا واهية؛ وبغض النظر عن الهوة المالية والاقتصادية التي تندفع إليها البلاد، وقفت الدولة المصرية يوم الثامن من حزيران/يونيو لتعلن نجاحها في وضع نهاية للخطر الداهم الذي هددها منذ كانون أول/يناير 2011، الخطر الذي وصل ذروته بتسلم مرسي مقاليد رئاسة الجمهورية. ولم يكن غريباً بالتالي أن يحتشد كبار قضاة البلاد، كبار رجال الدين الرسميين، وكبار رجال مؤسسات الدولة في حفل قسم اليمين، وأن يعلن المستشار عدلي منصور، رئيس المحكمة الدستورية، في آخر خطاب له باعتباره رئيساً مؤقتاً، أن «الدولة المصرية أثبتت أنها عصية على الانكسار.» الحقيقة، أن أحداً منذ كانون ثاني/يناير 2011 لم يعمل على كسر الدولة، وأن المصريين عشية تنحي مبارك تحدثوا بفخر عن نجاح ثورتهم في إسقاط النظام بدون المس بالدولة، وأن هدفهم ليس سوى تحقيق إصلاح تدريجي لجسم الدولة وأجهزتها. وهذا بالتأكيد كان النهج الذي التزمه مرسي في عام رئاسته القلق والقصير. 

ولكن الدولة، بالرغم من ذلك، رأت في هذا الإصلاح، المحدود والتدريجي، مصدر خطر وتهديد لقيمها ونمط خطابها وشبكة المصالح التي تستند إليها وترتبط بها. لم تحتفل الدولة بمرسي بأي نوع من الاحتفال، بل نظرت إليه بخوف وتوجس؛ وما إن تسارعت عجلة معارضته ومحاولة إطاحته حتى انحازت الدولة، بقضها وقضيضها، لمشروع التخلص من الرئيس المدني، المنتخب. وصول المشير السيسي لمقعد رئاسة الجمهورية يمثل ذروة انتقام الدولة لنفسها، ونجاحها المدوي في استعادة النظام الطبيعي. مراسم الاحتفال الرسمية المتعالية، مشهد الحرس المصطف، وطلقات المدفعية، والطائرات المحلقة في السماء القريبة، القاعات الفسيحة ببواباتها المرتفعة، المسؤولون العرب الكبار المتراصون بانتباه وفخر، وكبار رجال الجيش ومؤسسات الإدارة المدنية، والشخصيات الإعلامية والصحافية، حتى الغياب الشعبي، كانت كلها ضرورية لتوكيد انتصار الدولة وعودة الأمور إلى نصابها.