كتاب عربي 21

المصالحة.. حقيقة ما يحدث خلف الكواليس !

1300x600
في جملة اعتراضية في السياق السياسي الإقليمي اختطف الفلسطينيون الأضواء في عملية أربكت المشهد السياسي كله ، ففي مخيم الشاطئ وفي بيت إسماعيل هنية وبدون وساطة  مصرية مخابراتية هذه المرة ولا سعودية تفكك حماس وفتح كل الملفات الشائكة بينهما في ساعات ويصبح المستحيل ممكنا .. لم تكن سنوات المفاوضات لأجل المصالحة متعثرة بسبب ملفات شائكة تحتاج لكل تلك السنوات للبحث والشد والجذب ، إذ أن ملفات المصالحة محدودة وواضحة وليست ذات تعقيد كبير وكل ما كان ينقص في كل مرة هو "الإرادة" للتنفيذ فقط ، فماذا حدث ليجعل كلا الطرفين يهرول لها هكذا وبدون وساطة أو مؤتمرات ضخمة ومهرجانات خطابية كعادة الفلسطينيين دائما ؟ ، وهذا منوط بفهم الدوافع الطارئة على وضع طرفي المصالحة .. فتح وحماس .. "فتح - عباس" .. فلما أدركه الغرق . 

كعادة إسرائيل دوما في إستراتيجيتها في الصراع أن تصنع الشريك في قلب الخصم بحيث يكون الأقرب لمرحلته السياسية المناسبة لأولويات الإستراتيجية الصهيونية ، فقد كان عباس هو الشريك الأمثل القادم من الخطوط الخلفية بدعم إسرائيلي وأوروبي وأمريكي حيث استنفذ عرفات مرحلته السياسية التي يقبلها منه اليهود والتي تقضي بدمج الفلسطينيين في عملية تفاوض لانهائية ترتبط بتنازلات دائمة تستهلك الصراع ، إلا أن عرفات الذي شهد مرحلة المواجهة المسلحة ومرحلة التفاوض لم يعد قادرا على منح مزيد من التنازل ، وحان الوقت لتجديد الصف القيادي بشخصية لم تضغط زنادا واحدا ولم تطلق طلقة على العدو وكل رصيدها هو التفاوض ، وقد كان عباس الذي أتى على جثة عرفات بهندسة دحلانية أمنية وتعاون صهيوني .. 

عباس الذي فشل في حسم الصراع مع المقاومة وهي المهمة التي أتى من أجلها تحديدا حيث عملية تقليم أظافر المقاومة الفلسطينية تماما وتحويل السلاح الفلسطيني إلى سلاح قمعي داخلي أمني ، و كان مهندس العملية الأمنية دحلان هو يده الطولى التي يحركها أيضا الصهاينة ، إلا أن حظوة دحلان لدى دول عربية كبرى (مصر - السعودية) ونجاح نموذجه في مواجهة الإسلاميين في مصر وغيرها ووجوده في مجموعة أبو ظبي الأمنية ، بالإضافة إلى ضعف كاريزما عباس وفشله في تقديم تنازلات مرضية ، أو بالأحرى عدم ضمانة الأمريكان والصهاينة قدرته على تسويق التنازلات عبر كاريزما تستطيع أن تواجه ما واجهه عرفات ، جعلت دحلان هو القادم الذي يتم إعداده لتلك المهمة عبر بوابة الإمارات ومصر والرياض وهم اللاعبون الرئيسيون ومنهم نفهم رغبات تل أبيب أيضا في دحلان .. 

إدراك عباس لخطر دحلان بدأ يواجهه بعنف وشراسة شديدين ، فالختيار أطلق عليه حربا إعلامية وفصله من منظمة التحرير والحركة و سرعان ما اتهمه اتهامات كبرى بقتل عرفات وغيرها من عمليات تورط فيها دحلان بالفعل إلا أن كل هذه الخطوات لم تفِ بالغرض ومازال دحلان يمارس حربه الناعمة بدعم من أكبر حلفاء السلطة (مصر - الرياض - أبو ظبي) ، و لإدراك عباس الطريقة التي أتى بها على جثة عرفات أصبح يخشى نفس المصير ، ولإدراكه للقبول الإقليمي لدحلان شعر بأنه يفتقد قوته الإقليمية السابقة وبالتالي أصبح أكثر احتياجا لمحاولات مجنونة لاكتساب قوة الداخل قبل مواجهة موجة الخارج .. حماس بالتحديد ومصالحتها قادرة على غسل الصورة في الداخل ومنحه قوة تفاوضية كما فعل عرفات كثيرا ! 

"مفاوضات متعثرة" 

كما يذهب الكثيرون إلى وضع المفاوضات ذاتها كمدخل تفسيري ، فأي اتفاق إطاري كبير يحتاج إلى مشروعية "تمثيلية" ذات ثقل للمفاوض الفلسطيني بحيث تصبح أي اتفاقات نهائية ذات معنى ومغزى ، حيث ليس من الممكن تسويق أي اتفاق (فلسطيني - إسرائيلي) دون شكل من أشكال التوافق في الداخل بحيث أنه لا يمكن لعباس وحيدا تسويق أي اتفاق ، كما أنه وحيدا في التفاوض يواجه دحلان في الخارج والداخل وحماس أيضا وهذا يجعله في موقف حرج جدا مما يجعله يسرع في التوجه للمصالحة !. 

"حماس .. تنازل هادئ" 

ولعل هذه هي النقطة الأهم في كل ما سبق فقد كانت حماس دوما في موقف القوي المعتز بسيطرته على القطاع وسطوته على المقاومة ، وكان تمثيلها للمقاومة الفلسطينية محل شعبية في الداخل أيضا ، إلا أنها في الأيام الماضية أرسلت إشارات إيجابية للسلطة في رام الله و للجانب المصري أيضا في رغبتها في تسريع المصالحة وإنجازها ضمن حقبة تنازلات هي في حقيقتها ومآلاتها تنازل فعلي عن إدارة القطاع والمعابر والسيطرة عليهما كذلك إدخال آلاف العناصر الأمنية التابعة للسلطة ، وهذه التحولات تشكل تحولا فعليا في رؤية الحركة السياسية ، كذلك تعد تنازلا لا تخطئه عين في هذا السياق وينبئ بإستراتيجية جديدة تماما . 

حماس تدير القطاع منذ الانقسام إدارة كاملة وتتحمل كلفته كاملة من إدارة للمؤسسات ورواتب للموظفين و مصاريف التعليم والأمن والصحة ، كما أنه تدير ملف المعابر ، وكل هذا بخلاف كلفة تسليح المقاومة والإدارة المالية الداخلية ، وحتى أيام مبارك كانت الأنفاق تعمل بشكل جزئي مما كان يمكنها من إدارة القطاع بخسائر قليلة ، إلا أن التحول الحاصل في الانقلاب المصري و الذي من أول يوم اعتبر حماس كيان معادي من حيث لائحة اتهام الرئيس مرسي كونه متخابرا معها ككيان عدو ، و بداية عملية سيناء التي جففت الأنفاق بشكل كبير جدا وشلت حركة التجارة عبره كما أوقفت بنسبة كبيرة تدفق المحروقات وأغلقت المعابر ، أصبحت حماس أمام وضع جديد كليا .

ومع انهيار حليفها المصري وخسارة وضعها في سوريا والانهيار النسبي لعلاقتها مع إيران وحزب الله بسبب الوضع السوري لم تعد حماس قادرة على حمل كلفة كل هذه الأمور مرة واحدة ، فدعم إيران توقف و الدعم القطري والتركي أقرب منه للدعم السياسي فقط وبعض المساعدات الاجتماعية وكلاهما علاقتهم بمصر سيئة بالحد الذي يعيق وصول أي مساعدة من طرفهما عبر بلد المنفذ ، كذلك تصاعد أزمة القطاع الإنسانية أصبحت حماس تتحمل كلفة كبيرة منه شعبيا وسياسيا بسبب الانقسام ، وما أن تلاقت إشارة احتياج عباس مع احتياج حماس حتى أنتجت تلك المصالحة لكلا المجروحين ! 

حماس فعليا بهذه المصالحة تختار نمط "حزب الله في لبنان" حيث كونها قوة مسلحة فعلية على الأرض لها نظامها الداخلي وتأثيرها على الحياة السياسية كما أنها تتخلى عن مسؤولية إدارة الدولة والمعابر تدريجيا لتمنحها للسلطة ، كذلك ستقوم بحماية نفسها داخليا من أي خطر داخلي أو خارجي عبر لوبي المقاومة المسلح الذي سيكون أقوى بكثير من أي سلطة قادمة على الأقل في الشق الغزاوي منها ، وبتحررها من أعباء السلطة تستطيع حماس التحرر من العبء المالي والسياسي والتفرغ لصياغة تحالف مقاوم داخلي يشكل لوبي قوي متجاوزا إشكالات الوضع الشعبي والوضع الإقليمي والمصري.