مقالات مختارة

حمى بوتين العربية والأحلام المعلقة

1300x600
كتب مصطفى فحص: تجتاح بعض وسائل الإعلام العربية (المرئية والمسموعة والمكتوبة) إضافة إلى وسائل التواصل الاجتماعي حمى بوتينية، تكاد تقترب مما يسود في موسكو من شعور قومي وحماسة وطنية، بعد تصوير الإعلام الروسي والنخبة الحاكمة ضم القرم بمنزلة استعادة القوة الروسية وهيبة الدولة العظمى.

فمنذ سنة تقريبا ينشط سياسيون ومحللون وكتّاب عرب من خلفيات يسارية، في الترويج لمرحلة بوتينية جديدة، تشق طريقها من أجل كسر الأحادية القطبية، واستعادة الماضي السوفياتي على مقاسات روسية، سوف تنعكس مباشرة على المنطقة العربية، التي ستحظى بحليف جديد، يعيد توازنات الحرب الباردة وينهي تفرد واشنطن بمستقبل المنطقة والعالم.

جاء موقف الإدارة الأميركية المربك بعد انتفاضة 30 يونيو (حزيران) المصرية، شماعة علق عليها هذا التيار كل أمنياته وأحلامه ببروز الموقف الروسي على الأميركي، تبعه تهليل شعبوي لزيارة المشير عبد الفتاح السيسي إلى موسكو، ومبالغة في تفسير الود الذي تعامل به فلاديمير بوتين مع السيسي، بتحاليل تجاوزت الواقع والحقيقة، والتعامل مع الزيارة كأنها استمرار لزيارات القرن الماضي، ولكن غاب عن بالهم أن المشير السيسي ليس عبد الناصر، وفلاديمير بوتين ليس خروتشوف، كما أن مصر الآن وموسكو ليستا كما كانتا.

عندما لم يبقَ لهذه النخب من موسكو إلا اسمها، خانتها الذاكرة، فنسيت أو تناست أن نظام المصالح لا المبادئ يحكم تحرك الدول، لم يتذكروا أن في القاهرة، وفي السنة التي وقف فيها الرئيس عبد الناصر إلى جانب الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف، جنبا إلى جنب في افتتاح السد العالي، كانت الشخصيات الشيوعية واليسارية المصرية قابعة في السجون المصرية، أو ملاحقة من أجهزة أمن عبد الناصر، جنبا إلى جنب الإخوان المسلمين.

كما رفضت موسكو تسليم القاهرة طائرات حربية هجومية، بحجة أن موقف الاتحاد السوفياتي دفاعي وليس هجوميا، وقامت القيادة السوفياتية بإهمال معلومات سلمتها القيادة المصرية، عن تحركات مشبوهة عشية نكسة 67 ومنعت مصر من القيام بأي تحرك وقائي، بحجة أنه لا يمكن لمصر أن تكون بموقع المهاجم، الذي سيقف منه المجتمع الدولي موقفا عدائيا لأنه يعتبره عدوانا، وهذا يفتح السؤال الحقيقي حول قيام الرئيس أنور السادات بطرد الخبراء السوفيات عشية حرب أكتوبر 1973.

وفي الجزائر بعد الثورة قرر الثنائي الحاكم الرئيس أحمد بن بيلا ووزير دفاعه هواري بومدين أن الحزب الشيوعي الجزائري حزب محظور، ومنعته السلطات الجزائرية من القيام بأي دور، وأُودع النشطاء الشيوعيون السجون، وتزامن ذلك مع إعلان الجزائر دولة اشتراكية، قريبة من المعسكر الشرقي ولها علاقات وثيقة مع موسكو وبلغراد.

وفي العراق لم تتأثر العلاقات السوفياتية - العراقية كثيرا بعدما أطاح الانقلاب القومي البعثي (عبد السلام عارف وأحمد حسن البكر) سنة 1963 بحليف موسكو المدعوم من بعض الجهات الشيوعية عبد الكريم قاسم وقتله، بل فضلت موسكو الحفاظ على مصالحها الاقتصادية مع بغداد، وقامت بتسليح الجيش العراقي، حيث وصل حجم الصفقات العسكرية إلى 28 مليار دولار، بعد انقلاب البعث على عبد الرحمن عارف سنة 1968، الذي أعقبه تشكيل الجبهة الوطنية بين الشيوعيين والبعثيين، حيث حصل التعاون في الحكم لسنوات قليلة، ودخل الحكومة العراقية اثنان من الشيوعيين، مكرم طالباني وعامر عبد الله، ثم حصل تنكيل فظيع بالشيوعيين وانحلت الجبهة، من دون أن تتأثر علاقات موسكو ببغداد، بل ازدادت عمقا.

أما سوريا فلم يكن حكم البعث فيها أفضل حالا من العراق؛ فقد كان له دور في شق الحزب واستخدام الجبهة الوطنية غطاء للفتك بالشيوعيين، خصوصا العلويين منهم، من دون أن يكون للجبهة الوطنية أي دور. والمعروف أن نظام البعث السوري قد دخل لبنان متفقا مع الجبهة اللبنانية، بغطاء روسي أميركي، لقمع الحركة الوطنية اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية، وفرض وصايته على لبنان مع ما لزم من تفاهم بين واشنطن وموسكو وعواصم أخرى، وخذلت موسكو صديقها التاريخي الزعيم كمال جنبلاط، إلى حد أن أغرت خصومه المعروفين بقتله بدم بارد، ليخلو لهم الجو في لبنان.

في مقاله الأخير «الحرب الباردة الجديدة» في صحيفة «نيويورك تايمز» ونشرته «الشرق الأوسط» كتب فيكتور سيباستيان: «ليست هناك بوتينية يمكن تصديرها خارج حدود روسيا، فالقومية والرأسمالية الروسية أو العصابات لا تقدم بديلا للعالم»، من هنا يمكن القول إن العداء للولايات المتحدة لا يكفي لتبرير الترويج لروسيا جديدة ليست موجودة إلا في التمنيات، بينما واقع روسيا نفسه يخفي الكثير من المآزق ويعد بالكثير من الانتكاسات، التي ستكشف حجم موسكو وقدرتها على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، وفقدانها المتطلبات العصرية لبناء نظام حديث، وإمكانية خوضها لحرب باردة قد يفرضها الغرب للمزيد من استنزافها.

بعضهم يقرأ في هذا المشهد أن الأحزاب الشيوعية واليسارية العربية عموما لم تكن على علاقة بالمشروع الاشتراكي، بقدر علاقتها بالأنظمة الحاكمة، ما يفسر استمرار تبعيتها لموسكو الرأسمالية، المتصدية لحركات الشعوب والمساندة لأنظمة الاستبداد، من طرابلس الغرب إلى بغداد السابقة واللاحقة ودمشق وغيرها، دون أي اعتراض.

(الشرق الاوسط)