مقالات مختارة

نقطة نظام

1300x600

عندي ثلاث ملاحظات على العراك الحاصل الآن بين القياديين محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية ومحمد دحلان مسؤول الأمن الوقائي السابق في قطاع غزة. ورغم أني لست معجبا بالاثنين، وأعلم، كما يعلم كثيرون، أن العراك بينهما له تاريخ، إلا أن الصدمة التي تلقيناها مما جرى بينهما أخيرا والظروف التي استجدت في مشهد العراك، مما لا ينبغي تمريره أو تجاهله.

وما كان لمثلي أن يعلق على الذي جرى إلا لأن الرجلين ينتسبان إلى قضية تشكل جزءا من وعي كل صاحب ضمير حي في العالم العربي على الأقل، فضلا عن أن مصر أقحمت في العراك على نحو يبعث على التساؤل والدهشة.

الملاحظة الأولى تتعلق بمستوى العراك، الذي بدا هابطا وأقرب إلى الردح السياسي الذي يصدمنا ويثير دهشتنا. وأيا كان رأينا في موضوعات الخلاف بينهما. فإن ما تبادلاه من اتهامات على الملأ كان مهينا للرجلين، إذ وجه كل طرف مطاعن إلى الآخر تجاوزت كل الحدود، إذ تبادلا الاتهام بالخيانة والعمالة والقتل والسرقة والتآمر. صحيح أنهما تقاذفا بشيء قريب من ذلك في مناسبات أخرى وبشكل مخفف أحيانا، إلا أنها المرة الأولى في التاريخ الفلسطيني الحديث، التي يلقي فيها أحد القياديين بذلك الكم من التهم دفعة واحدة في وجه قيادي آخر. وفيما ظاهر فإن السيد محمود عباس انفجر غاضبا في اجتماع للمجلس الثوري لحركة فتح عقد في رام الله يوم 12 مارس الحالي، وفي حديثه فتح النار على صاحبنا مستعيدا وقائع وقصصا منسوبة إلى السيد دحلان وبعض رفاقه، وصل فيها إلى حد اتهام الرجل بالضلوع في قتل بعض القيادات الفلسطينية، وقيامه بدور في اغتيال الرئيس السابق ياسر عرفات، فما كان من الثاني إلا أن ظهر على شاشة إحدى القنوات الفضائية يوم الأحد 16 مارس، ورد عليه الاتهامات ذاتها، التي جرَّحت أبو مازن وابنيه.

في القصف العنيف تبادل الرجلان أوصافا واتهامات لم تبق لأي منها على شيء من الكرامة أو الاحترام. من ثَمَّ خرجا من العراك، وقد تشوهت صورة كل منهما، ونشرا على الملأ حصيلة معتبرة من الغسيل القذر، حتى بدا كأن كلا منهما قرر أن يجهز على الآخر بحيث لا تقوم له بعد ذلك قائمة. الأمر الذي أهان حركة فتح ذاتها وكشف عن مستوى من الأداء السياسي مغرق في الهبوط. وهو ما يسوغ لنا أن نسأل: إذا كان ذلك مستوى رجال الصف الأول، فما بالنا بمن دونهم من عناصر الصف الثاني أو الثالث أو الرابع؟ ناهيك عن أن المشهد علم الناس درسا لا ينسى في «أدب» الحوار.

الملاحظة أو الصدمة الثانية تمثلت في أن القاهرة كانت المنصة التي استخدمها السيد محمد دحلان لرد الصاع لأبو مازن. ورغم أن الرجل يقيم في الإمارات وكان بإمكانه أن يطلق قذائفه من هناك إلا أنه اختار أن يفعلها من مصر، وكان ذلك اختيارا ماكرا استقوى به دحلان وحصد به عدة نقاط لصالحه في منازلته لرئيس السلطة. من ناحية لأنه أعطى انطباعا بمساندة القاهرة له، بدليل أنها أفسحت له المجال لكي يستخدم أحد منابرها لكي يشن هجومه على أبو مازن، ولن يصدق أحد أن القناة خاصة، وأن حرية التعبير مكفولة، لأن الجميع يعرفون أن خطوة من ذلك القبيل لا يمكن لها أن تتم دون ترتيب وموافقة من جانب أجهزة السلطة في مصر. 

ومن ناحية ثانية فإن الرجل حين تكلم من القاهرة فإنه خاطب جمهورا عريضا في داخل مصر وخارجها وعمم عليه الفضيحة، في حين أن أبو مازن حين تحدث في رام الله فإن الذين تلقوا رسالته كانوا عددا محدودا بصورة نسبية. وأزعم في هذا الصدد أن كثيرين لم ينتبهوا إلى كلام أبو مازن إلا حينما رد عليه دحلان من مصر.

الملاحظة الثالثة أن إقحام القاهرة في العراك وقيامها بدور المنصة لصالح السيد دحلان بدا سحبا من رصيدها، وهو ما كانت مصر في غنى عنه. ذلك أن هذا الموقف أعطى انطباعا باصطفاف نظامها إلى جانبه في صراعه مع أبو مازن. ناهيك عن أن الرجل ـ دحلان ـ له سجله الحافل بالشكوك والشبهات في الإدراك الفلسطيني وفي أوساط المهتمين بالقضية في العالم العربي، وهؤلاء يرون في العلاقات الخاصة والممتدة التي تربطه بالإسرائيليين نقطة في غير صالحه. وإذ أشار في حديثه الذي بثته القناة المصرية إلى علاقاته القديمة مع قادة النظام القائم في مصر، وكونه قدم خدمات لهم ــ وصفها بأنها واجبات ــ فإن ذلك استدعى سيلا من الأسئلة حول حقيقة ما ادعاه وطبيعة تلك الخدمات. علما بأنه استثمر اتصالاته وعلاقاته كمسؤول أمني سابق في تنشيط حركة الثورة المضادة من خلال منابر عدة في داخل العالم العربي وخارجه. 

وإلى جانب هذا كله وذاك، فإن وجوده في القاهرة في ظروف اشتباكها الراهن مع حركة حماس في غزة ــ وهو خصمها اللدود الذي أفقدته سلطاته بالقطاع ــ يفسر باعتباره تصعيدا مصريا واحتشادا لما هو آت، خصوصا أن بعض أتباعه من عناصر الأمن الوقائي لا يزالون موجودين في العريش ورفح، وهؤلاء ليسوا سياحا بطبيعة الحال، وهؤلاء يؤدون وظائف أو يعدون لها.

إن المشهد برمته يضيف فصلا جديدا إلى سجل الدهشة الذي يشيع البلبلة بين الناس ويفتح الأبواب واسعة لإساءة الظن واهتزاز الثقة في الحاضر والمستقبل. ذلك أنه إذا كان الناس يعرفون بأصدقائهم وحلفائهم، فإننا تمنينا في المشهد الذي نحن بصدده أن تصادق مصر من يضيف إليها ولا ينتقص من قدرها.

(عن الشرق القطرية 22 آذار/ مارس 2014)
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع