كتاب عربي 21

امسح دموعك يا حسام!

1300x600
عندما بكي الدكتور حسام عيسي، وزير التعليم العالي في حكومة حازم الببلاوي، في برنامج تلفزيوني، تذكرت المثل المصري الدارج: "كل حزينة تبكي بكاؤها". فليس صحيحاً أن الظاهر من الأمور هو الدافع الحقيقي للبكاء!

الدكتور حسام عيسي كان يتحدث عن الفساد عندما بكي، فلم يقنعني بأن هذا هو السبب في نحيبه، لأنه ومنذ أن أسندت إليه حقيبة التعليم العالي لم يكن محاربة الفساد مطروحاً علي جدول أعماله، لكنه كان في حالة سكر بيّن بالمنصب الوزاري دفعه، لأن يكون عند حسن ظن الانقلاب العسكري الذي جاء به في منصب لم يكن يحلم به يوماً، فلولا الانقلاب لما صار وزيراً. فأسرف في إظهار "الحب العذري" فأخذ يهاجم الإخوان، متقرباً للعسكر بالنوافل فلما فقد مفعوله تماماً، ألقوا به على قارعة الطريق عند أول تشكيل وزاري!

الناصريون ليست لديهم مشكلة مع حكم العسكر، باعتبار أن هذا الحكم فيه "من رائحة الحبايب"، وقضية الديمقراطية لا تشغلهم البتة، ولهذا فعندما رأوا نجم السيسي بازغاً هتف هاتفهم: "هذا ربي.. هذا أكبر"، وقد كان عبد الناصر مجرد بكباشي، أم السيسي فقد رقّاه مبارك لرتبة اللواء، ورقّاه محمد مرسي لدرجة الفريق الأول، قبل أن يمنحه الرئيس المعين رتبة المشير!

بيد أن حسام عيسي كان بالنسبة لي ناصرياً مختلفاً، وعندما جئت للقاهرة في أيام الصبا نازحاً من الصعيد، كنت أحضر المؤتمرات التي تعقد تقريباً كل يوم خميس بنقابة المحامين، وذات مؤتمر وعندما أعطيت الكلمة للدكتور حسام عيسي، وهتف الشباب الشيوعي: "شيوعيون حتى النصر"، قطع عيسي هتافهم بقوله: "شهدي عطية وطني وشهيد.. وسيد قطب وطني وشهيد.. والذين ماتوا تحت التعذيب في ظل حكم عبد الناصر وطنيون وشهداء".

وظلت هذه العبارة تطفو على سطح الذاكرة عندما أتذكر الرجل، الذي بدا لي ناصرياً مختلفاً، وأنا الفتى الذي قرأت في مرحلة مبكرة من حياتي عن التعذيب الذي وقع على الإخوان في سجون عبد الناصر فأثر هذا في تكويني السياسي لتصبح قضية الحرية هي عند رأس الأمر وعموده وذروة سنامه.

ظل عندي حسام عيسي ناصرياً علي طريقته، فاتني أن العرق دساس، وأن الرجل الزاهد شكلاً يحمل في داخله رغبة في السلطة يكاد يخفيها، إلى أن أُستدعي لشغل وظيفة وزير التعليم العالي، فهرول محلقاً ومقصراً، ليذكرني بقصة تروي في محيط المتصوفة!

فقد كان فيمن قبلكم رجلان من العباد، وقد ذهبوا للصحراء متعبدين لمدة خمسة وثلاثين عاماً، لكن حدث أن وقع الاختيار على أحدهما لكي يكون قاضي القضاة، فإذا به يركل في الدنيا ركل الوحوش في البرية. فأخذ صاحبه يصيح في الشوارع: من كان عنده سر فليودعه قلب قاضي القضاة، لأنه ظل خمسة وعشرين عاماً يخفي في قلبه حبه للدنيا!

منذ البداية، كان الموقف واضحاً عندي، فالفريق عبد الفتاح السيسي يحلم بمنصب الرئيس، وهو منتم بالنشأة والتكوين لمرحلة مبارك، وليس وفياً للثورة وأن ارتفعت بقدره ليكون وزيراً للدفاع، ولهذا فلما وجد الفرصة مواتية انقلب على الثورة، وما الوجود الجماهيري يوم 30 يونيه إلا لاستكمال الشكل، وأن كرسي الرئيس هو هدفه، وأن العودة إلى عهد ما قبل 25 يناير 2011 هو مبتغاه!

وكان في استدعاء بعض القوى الثورية التي تتحرك وفق قواعد الكيد السياسي للإخوان هو لإسباغ غطاء ثوري علي الثورة المضادة. ومنذ اليوم الأول قلت ان السيسي يريد الثوريين "لمسافة السكة فقط"، ولم أكن أظن أنه سيصل الى ما يريد سريعاً، ليجهر بالمعصية ويشكل الحكومة علي ذات الأسس التي كان يشكل عليها مبارك حكومته، باختيار من ليس لهم رأي أو موقف سياسي، ليكونوا أعضاء فيها!

وكانت العينة بينة، فقد ورث العسكر كراهية الدكتور محمد البرادعي من حسني مبارك، وهم لديهم كراهية بالسليقة لأي إنسان واثق من نفسه، لكنهم وافقوا في البداية على مطلب "شباب الثورة" ليكون رئيساً للحكومة علي مضض، ولتأكيد أن ما يحدث هو مد ثوري ينتمي لثورة يناير والبرادعي من رموزها. ثم دفعوا بحزب النور ليرفضه، واكتشف الرجل حجم الأزمة التي ورط فيها الوطن، فانصرف سريعاً، وقد خسر الجلد والسقط!

ثم طرحت أصوات ثورية اسم زياد بهاء الدين ليكون رئيساً للحكومة فجيء ببديل ضعيف وإن كان معه شهادة بالانتماء لأحزاب جبهة الإنقاذ، وهو الدكتور الببلاوي، أما زياد فكان نائباً له وبلا صلاحيات تقريباً، ودفعه الملل للاستقالة، وبقي من أحزاب الجبهة: الببلاوي من الحزب الاجتماعي، وكمال أبو عطية من حزب الكرامة، وأحمد البرعي من حزب الدستور، وحسام عيسي القيادي بالحزب الناصري!

وهؤلاء وبخلفيتهم السياسية تصدروا المشهد للانتقام وليزينوا للسيسي سوء عمله ليراه حسناً، وتم استخدامهم في حرب المواجهة مع الإخوان ليحرقوا سياسياً وتسقط عنهم ورقة التوت التي تستر العورات.

لم يكن الببلاوي تاريخياً معاديا للإخوان، ولم يكن بحكم انتمائه للتيار المدني ممن يمكن أن يوافقوا على القتل والاستئصال والاعتقال.. لكن أذل الحرص أعناق الرجال، فجاء ليبرر ما ارتكبه الحكم العسكري تحت لافتة حكومته!

وما يسري على الببلاوي يسري على البرعي الذي يناصر المجتمع المدني فجاء ليحل الإخوان، الجماعة والجمعية، ويدافع عن قرار الحل ويبرره، ويُستخدم ليستحل أموال الغير بحجة أن أصحابها ينتمون لجماعة إرهابية!

أما حسام عيسي فحكايته حكاية. فلم نضبطه متلبساً أبداً بممارسة مهام وظيفته كونه وزيراً للتعليم العالي، ولكنه بدا كما لو كان وزيرا للداخلية، او نائباً للحاكم العسكري، ليكون هو من يعلن قرار إعلان الإخوان جماعة إرهابية، وهو ليس وزيراً للعدل، او للداخلية، أو رئيساً للوزراء، لكنه الاسراف في إثبات الولاء!

الاتهامات التي يلصقها الانقلاب العسكري للإخوان، هي ذاتها التي كان يلصقها بهم نظام مبارك، ومع هذا كان أبو عيطة يقود الهتاف في المظاهرات: "خيرت الشاطر يا أخانا كيف العتمة في الزنزانة". ومرة أخرى "يا عريان يا أخنا كيف العتمة في الزنزانة".. وبعد الثورة كان مرشحاً على قوائم حزب الإخوان ليفوز بعضوية مجلس الشعب!

بيد أن الحال تغير، وصار أبو عيطة عضواً في حكومة تفعل في الاخوان ما فعله حسني مبارك فيبتهج، ويسعد بموقعه الجديد الذي جاء إليه بقرار من عبد الفتاح السيسي وهو الذي بني نضاله على الهتاف ضد حكم العسكر، ناهيك عن الدفاع عن قضايا العمال فلما صار وزيراً نسي كل تاريخه وتعامل على أنه "السلطة".

بعد أن تحول هؤلاء إلى أوراق محروقة، وبعد أن مكنوا لحكم العسكر، وبعد مكنوا نظام مبارك من العودة من جديد، حلت الحكومة وعدت للتشكيل بدونهم، وكأن قرار تشكيل الحكومة الجديدة كان بهدف إبعادهم!

وبكى حسام عيسي عندما تحدث عن الفساد، لكننا نعلم انه بكاء على هذه النهاية الأليمة.

ولا بأس، فمن المأثور المنقول من الدراما مقولة: "امسحي دموعك يا آمال".. فامسح دموعك يا حسام!

نعوذ بالله وإياكم من سوء الخاتمة!