مقالات مختارة

سوريا وأوكرانيا ساحتان لتصفية الحسابات الأميركية ـ الروسية!

1300x600
ربما كثيرون لم يلاحظوا، في غمرة الأحداث المرعبة التي تشهدها الكثير من الدول العربية، أن روسيا قد وجدت في انفجار الأزمة السورية، بعد لجوء بشار الأسد إلى مواجهة احتجاجات شعب لم يعد شعبه بالعنف وبالحديد والنار والتدمير والمذابح الجماعية المرعبة، فرصة لفتح جبهة ضد الأميركيين مقابل الجبهة التي يتهمون الولايات المتحدة بفتحها في الخاصرة الروسية الرخوة؛ أي في أوكرانيا ذات الستة والأربعين مليون نسمة التي تمتلك ثاني أكبر جيش في أوروبا الشرقية والتي «تستضيف» مرغمة، وفق اتفاق تأجير فرض عليها بالقوة الغاشمة، أسطول البحر الأسود الروسي الذي يشكل العمود الفقري للقوة البحرية السوفياتية سابقا ولروسيا الاتحادية في الفترة الحالية.

والمعروف أن هذه الأزمة الطاحنة التي تشهدها أوكرانيا الآن، والتي كانت شهدتها جورجيا سابقا واستدعت تدخلا روسيا عسكريا سافرا، كانت قد بدأت عندما اتهمت المعارضة الأوكرانية الرئيس الأوكراني فيكتـور يانوكوفيتش وحكومته «ببيع أوكرانيا لروسيا» من خلال اتفاقات تهدف إلى ضمها إلى الاتحاد الجمركي للجمهوريات السوفياتية السابقة بقيادة روسيا الاتحادية، وهذا يبدو أنه قد جاء ردا من قبل الحكومة الأوكرانية الموالية لموسكو على اتفاق أوكراني سابق يتعلق بـ«التجارة والتعاون» بين كييف والاتحاد الأوروبي.

ولعل ما يؤكد أن هناك أزمة متنامية في أوكرانيا قد تتطور إلى الأسوأ كما تطورت الأزمة السورية، التي بدأت كمجرد مطالب شعبية إصلاحية معقولة ومقبولة ثم تحولت إلى كل هذه الحرب المدمرة بسبب ركوب بشار الأسد رأسه ومواجهة هذه المطالب بالعنف والقوة العسكرية الغاشمة، هو أن احتجاجات الأوكرانيين اندلعت قبل نحو شهر من تراجع الرئيس فيكتور يانوكوفيتش عن توقيع اتفاق الشراكة آنف الذكر مع الاتحاد الأوروبي الذي كان من المفترض أن يكون مدخلا ليصبح هذا البلد عضوا في الاتحاد الأوروبي، وأن أرسيني باتسينيوك، أحد قادة المعارضة، قد رد على ما أقدم عليه الرئيس الأوكراني بالقول: «إن جيراننا الروس يحاولون إبرام اتفاقات تهدف إلى ضم بلدنا إلى الاتحاد الجمركي الروسي.. لكن هذا الشأن سيؤدي إلى إراقة دماء غزيرة».

وهكذا، فإن ما يؤكد أن هذه الأزمة، التي تحولت مع مرور الوقت إلى ما يشبه كرة ثلج كبيرة منحدرة من فوق جبل شاهق الارتفاع، قد تصبح بحجم وخطورة الأزمة السورية، أن أحد مساعدي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد اتهم الولايات المتحدة قبل نحو أسبوعين، أي في الفترة التي كانت الاستعدادات لعقد «جنيف 2» قد اقتربت من نهايتها، بأنها تقوم بتسليح «متمردين» أوكرانيين، وأنه طالب الحكومة الأوكرانية بإحباط ما سماها محاولة انقلابية، مهددا بتدخل عسكري روسي للحفاظ على الأمن في الجمهورية السوفياتية السابقة.

وأيضا، فإن ما تجدر الإشارة إليه هو أن جون كيري وزير الخارجية الأميركي رفع مستوى المواجهة الساخنة مع روسيا عندما قال في مؤتمر أمني بميونيخ في بداية فبراير (شباط) الحالي: «إن أوكرانيا التي تواجه أزمة سياسية وتشهد احتجاجات قوية وكبيرة، يتعين أن تكون حرة في التوجه نحو الاتحاد الأوروبي، ويجب ألا تشعر بأنها مكرهة على ما لا تريده من قبل جار أقوى منها هو روسيا الاتحادية». وأضاف كيري، في رفع واضح لمستوى المواجهة مع موسكو: «لا يوجد مكان تتجلى فيه أهمية القتال من أجل مستقبل ديمقراطي أوروبي أكثر مما هو عليه الوضع في أوكرانيا.. إن الغالبية العظمى من الأوكرانيين تريد أن تعيش في دولة تتسم بالأمن والرخاء».

وكذلك، وفي لقاء لاحق مع قادة المعارضة الأوكرانية، أكد كيري دعم الولايات المتحدة لتطلعات الأوكرانيين الأوروبية وجهود قادة المعارضة الأوكرانية في دفاعهم عن خيار الديمقراطية لبلدهم. وكان وزير الخارجية الأميركي قد قال في اجتماع ميونيخ آنف الذكر الذي حضره بعض الدبلوماسيين الأميركيين والأوروبيين وبعض المشرعين وبعض كبار العسكريين: «إن المحتجين في أوكرانيا يقاتلون من أجل حق الانتساب إلى شركاء سيساعدونهم في تحقيق طموحاتهم، وأنهم قرروا أن مستقبلهم لا ينتمي إلى دولة واحدة فقط.. إن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يقفان إلى جانب هذا الشعب في قتاله هذا».

ثم وفي إطار اشتباك التصريحات الساخنة هذه، فقد اتهمت الولايات المتحدة روسيا بالتدخل في الشؤون الداخلية الأوكرانية، وأيضا وفي هذا الصدد نقلت وكالة الأنباء الروسية أول من أمس (الثلاثاء) عن المتحدث باسم الخارجية الروسية ألكسندر لوكاشيفيتش قوله إن واشنطن تحاول، وبالقوة، فرض توجهاتها على حكومة كييف تحت ستار الدعوة لوقف التدخل في حرية خيار الشعب الأوكراني.. إن أميركا تقول للسلطات في دولة ذات سيادة ما عليها أن تفعله وكيف تقوم بذلك. وكان نائب المتحدثة باسم الخارجية الأميركية، ماري هارف، قد قال موجها كلامه للمعارضين الأوكرانيين: «إن الخطوة التالية يجب أن تكون تشكيل حكومة تقنية متعددة الأطراف تقوم على تقاسم السلطة والمسؤولية فعلا.. وهذا في حقيقة الأمر هو ما يعمل من أجله الأميركيون بالنسبة للأزمة السورية، التي لا شك في أنها أكثر تعقيدا من الأزمة الأوكرانية».

وهنا، فإنه لا بد من الإشارة إلى أن الأجواء التي سادت عشية انعقاد «جنيف 2» في جولته الأولى وجولته الثانية كانت ترجح تفاهما أميركياً - روسياً على ما جرى الاتفاق عليه في جنيف الأولى؛ وأهمه تشكيل هيئة انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية تقود البلاد نحو التغيير الشامل وتحويل سوريا إلى دولة ديمقراطية، لكن المفاجئ أن الروس أظهروا خلال آخر اجتماع بين ممثلي حكومة بشار الأسد وممثلي ائتلاف المعارضة السورية تشددا مفاجئا، وحيث وجه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لاحقا انتقادات لاذعة للوسيط العربي والدولي الأخضر الإبراهيمي، طالبه فيها بضرورة عدم توجيه اللوم إلى طرف واحد بالنسبة للاجتماعات الأخيرة وحيث قال أيضا إن تركيز القيادة السورية على موضوع الإرهاب «محق» وضروري.

وحقيقة، إن كل ما بقي يفعله الروس منذ بدايات هذه الأزمة وحتى الآن هو مجرد مناورات لإثبات أن روسيا الاتحادية قد استعادت الدور الذي كان يلعبه الاتحاد السوفياتي السابق في المعادلة الدولية، وأنها، أي روسيا، لا يمكن أن تقبل بأن تلعب الولايات المتحدة في أي من ساحاتها الثانوية والرئيسة، بل وأن لديها القدرة على اللعب في المجالات الحيوية الأميركية، وأنه مقابل مد الأميركيين أيديهم إلى الكثير من الجمهوريات السوفياتية السابقة، ومن بينها جورجيا وأوكرانيا والجمهوريات البلطيقية الثلاث لتوانيا ولاتفيا وإستونيا، فإنها، أي موسكو، قادرة على الإبقاء على نظام بشار الأسد كشوكة في حلوق العرب الذين يعتبرون حلفاء لواشنطن، وإنها أيضا قادرة على الإبقاء على «البعبع» الإيراني، الذي يحتل الآن عمليا العراق ويهيمن على سوريا وعلى لبنان ويشكل صداعا مؤلما في دول عربية أخرى، في مقدمتها اليمن، بالإضافة إلى مملكة البحرين، يلعب كل هذا اللعب في الساحات العربية.

ولذلك، فإنه يجب التعامل مع الأزمة السورية على أن القرار في هذا البلد العربي قرار روسي أولا وأخيرا، وأنه لا يمكن لهذه الأزمة المدمرة أن تصل إلى النهاية المرجوة ما لم: إما يتفاهم الروس والأميركيون على حلول مشتركة في كل الساحات الساخنة المختلف عليها، وإما أن تضع الولايات المتحدة حدا لسياساتها «المائعة» تجاه كل هذا الذي يجري في سوريا وتعود للتصرف والتعامل مع الأزمات الدولية الطاحنة على أنها القوة الأعظم في العالم وأنه لا يجوز لروسيا الاتحادية، التي لا تزال تشكو من أوجاع كثيرة، أن تأخذ مكانة ومكان الاتحاد السوفياتي في المعادلة الدولية التي بقيت مستمرة منذ الحرب العالمية الثانية وحتى بدايات تسعينات القرن الماضي.

ويبقى أنه لا بد من اعتبار المذبحة الدموية التي شهدتها العاصمة الأوكرانية كييف أول من أمس الثلاثاء دليلا لا يحتاج إلى أي براهين على أن أوكرانيا ذات التركيبة السكانية «الفسيفسائية»، حيث هناك الأوكرانيون بالطبع الذين يشكلون نحو ثمانية وسبعين في المائة وهناك الروس والبيلاروس والرومانيون، ذاهبة إلى ما ذهبت إليه سوريا التي أدخلها هذا النظام المستبد والقاتل في لعبة أمم جديدة وفي حرب طاحنة مدمرة، باتت تتخذ، وهذا هو الأخطر، طابع الحرب الأهلية الطائفية والمذهبية.

(الشرق الاوسط)