أفكَار

مساهمة في النقاش المفتوح حول مؤتمر "النهضة" التونسية.. ‎المخرز والكف

لماذا تتحول مؤتمرات حركة النهضة إلى مهمة أمنية لدى أجهزة الاستخبارات؟ شهادة من التاريخ.. (الأناضول)
تواجه حركة "النهضة" التونسية منذ انقلاب الرئيس قيس سعيد على المسار الديمقراطي في 25 من تموز (يوليو) 2021، جملة من التحديات الذاتية والموضوعية.. أما الذاتية منها فتتعلق أساسا بمؤتمرها الحادي عشر المؤجل منذ عامين تقريبا، وجهود التكريس للنسق التداولي على القيادة.. أما الموضوعية فتتصل أساسا بمقاومة الانقلاب والعودة إلى استكمال مسار الانتقال الديمقراطي..

"عربي21"، تنفتح على هذا النقاش، وتفتح الباب للحوار حول التحديات التي تواجه حركة "النهضة" لا سيما بعد اعتزام قيادتها الحالية بالنيابة، على الإعداد لعقد مؤتمر الحركة في الخريف المقبل، وهو ما أثار ردود فعل متباينة ومختلفة، لا سيما وأن رئيس الحركة الشيخ راشد الغنوشي ونائبيه في الاعتقال منذ عدة أشهر..

الطاهر بوبحري القيادي في حركة النهضة، يكتب مساهمة في هذا الموضوع، من خلال تاريخ مؤتمرات حركة النهضة في الخارج، تنشرها "عربي21" تعميقا للحوار وتعميما للفائدة..


مؤتمرات النهضة في الخارج

‎عقدت حركة "النهضة" التونسية ثلاث مؤتمرات بالخارج، السادس (1995) والسابع (2001) والثامن (2007) وكانت تستعدّ لعقد التاسع ولكن قيام الثورة أوقف ذلك وتم بعدها بتونس.

‎نظام بن علي وأجهزته كان همّها المعلومة والتي بناء عليها تحدّد خطواتها، كانت تحاول معرفة كل شيء ودفعت من أجل ذلك مالا كثيرا وجهدا أكبر وخصوصا في متابعة مؤتمرات النهضة الثلاث بالخارج، خصوصا المؤتمر السابع حيث كانت  أكثر انتباها ومتابعة وعزما على معرفة تفاصيله لحظة بلحظة ومحطة بمحطة وكان لها ذلك، مثلما أرادت وأكثر.

‎كانت أجهزة بن علي حريصة على كشف زمان ومكان المؤتمر للجهات الأوروبية وكانت موعودة بأن تعرف الزمان والمكان قبل مدّة مما سيمثّل ضربة معنويّة مؤلمة وموجعة من ناحية وقعها على أبناء الحركة في الداخل والخارج وعلى علاقتنا بالدولة التي سينعقد بها المؤتمر.
‎كانوا يتابعون ويرصدون والغرض التدخل في المؤتمر وإفشاله. حاولت الأجهزة ذلك كثيرا عبر منشور من صفحة واحدة كان يسمّى "أعضاء النهضة بالخارج" يختصّ بنشر الإشاعات حول الأموال  والسيارت والعقارات والأملاك الخيالية للقيادات مقابل معاناة القواعد وتحريضهم عليهم وهو نفس الأسلوب الذي تواصل بعد الثورة. كان المنشور يرسل دوريا لأغلب النهضويين بأوروبا وكان وراءه المدعوّ (م ن) وهو ليس بوليسا فقط بل كان خصما مؤدلجا تسيّره الأحقاد.

‎كانت أجهزة بن علي حريصة على كشف زمان ومكان المؤتمر للجهات الأوروبية وكانت موعودة بأن تعرف الزمان والمكان قبل مدّة مما سيمثّل ضربة معنويّة مؤلمة وموجعة من ناحية وقعها على أبناء الحركة في الداخل والخارج وعلى علاقتنا بالدولة التي سينعقد بها المؤتمر.

‎كانت كل تقارير ومحاضر جلسات "اللجنة" التي تشرف على المؤتمر تصل الأجهزة أولًا بأول، الأسماء والتواريخ والمراسلات والميزانية وخطوات الإنجاز والصعوبات وحتى النقاشات والخلافات البسيطة والتوترات التي كانت تقع بين عناصر "اللجنة" وبينهم وبين قيادة الحركة بل كانت تعرف مكان كل اجتماع ومن حضر ومن غاب ونوعية الطعام وهي معلومات دقيقة لا تترك شكا في صدقيّتها.

‎كانت كل مؤسسات الخارج وموظفو النظام وبعثاته الدبلوماسية والأمنية ومليشياته الحزبية تشتغل على قدم وساق لذات الغرض.

‎باختصار كان المؤتمر مكشوفا بالكامل وكان بن علي يغدق على العناصر الأمنية التي توفّر تلك المعلومات شهائد الشكر والرضى والترقيات.

‎كان الملف بين يدي إدارة "الأمن الخارجي" بحكم الاختصاص الجغرافي وإدارة "الأبحاث الخاصة" التي كان يرأسها حينها المدعو (م ن) وكان اختصاصها الحصري مراقبة ومتابعة ملف حركة النهضة وعناصرها بالداخل وخصوصا بالخارج إذا كانت كل "التقارير" التي تصلها (من مصادر موثوقة جدا وذات مصداقية عالية من داخل نهضة الخارج) تؤكد جميعها على انعدام  النشاط بالداخل وانتفاء التنظيم به ولم يبق إلا الخارج ميؤوسا منه.

وإذا كان من وظائف الدولة خدمة الناس الذين يعيشون تحت سلطتها وتوفير الأمن (بحكم احتكارها للسلاح  وأدوات القوّة) فإنها في تونس كانت تقوم عكس ذلك، إذ كان همّها تضييق الخناق على مواطنيها وحتى الذين هربوا منها أرسلت تطاردهم وتعدّ أنفاسهم وتسعى بكل السبل إلى إفساد حياتهم وخنق حريتهم.

‎كان (م ن) (ومن معه) أغبياء وكرماء وكنا في حاجة ماسة لغبائهم وللمال الذي ينفقونه من ميزانية الدولة وقوت الفقراء في سفرياتهم وسهراتهم وملذاتهم ففي رقابنا إعالة آلاف العائلات المعوزة.

‎كان بن علي يتابع ذلك مباشرة وتقع استشارته والعمل بتوصياته، ‎وكان من أسميناه "عبد الصمد" من ينقل هذه التقارير بإخلاص ووفاء وكان يسرع بها إليهم كلّما تسلّمها وحين لا يتسلّمها ويكون مضطرا يجتهد ويكتب من عنده ولا أحد من "تلك اللجنة" كان يعرف شيئًا من ذلك.

في العادة كان رجال البوليس لا يقابلون صيدهم فرادى بل يتحركون إثنين إثنين. في ما يتعلّق بأخبار المؤتمر كانوا كلما سنحت الفرصة لأحدهم أن يأتي وحده لا يفوّتها ليحقّق سبقا يتقرّب به أكثر لمن يعلوه رتبة وكانوا يزجون في العطاء.

"عبد الصمد" كان مُحبّا جدا للمال وإلا ما باع أصحابه وهذا ما كان يقنعهم بسبب "سقوطه" وكان لا يفوّت فرصة بل كان أحيانا يصنع الفرص والمناسبات ليؤكد ذلك. فإن عاد لبيته ليلا ولم يجد ما يأكل وكان جيبه فارغا هاتفهم فيأتون مسرعين دون تأخير وبعد أن يتعشى ويملأ بطنه يقول لهم اليوم شاهدت "عبد الواحد" في Gare de Nord مسافرا ولا أدري إلى أين وبذلك يضمن عشاء آخر بعد مدّة ليخبرهم بأنه سافر إلى لندن أو ألمانيا وإذا أراد يكون غداء ثالثا ليعطيهم تقريرا عن السفرة. أو أن يهاتفهم فيأتونه ليقول كلمني "ياسين" يريد مقابلتي، فهل عندكم ما تودّون السؤال عنه فيجتهدون وفي كل مرّة يدفعون.

‎بالتوازي كانت الجهة المسؤولة عن إنجاز المؤتمر واثقة من نفسها تؤدي مهمّتها ‎بكل اطمئنان وثقة وهدوء.

إذا كان من وظائف الدولة خدمة الناس الذين يعيشون تحت سلطتها وتوفير الأمن (بحكم احتكارها للسلاح وأدوات القوّة) فإنها في تونس كانت تقوم عكس ذلك، إذ كان همّها تضييق الخناق على مواطنيها وحتى الذين هربوا منها أرسلت تطاردهم وتعدّ أنفاسهم وتسعى بكل السبل إلى إفساد حياتهم وخنق حريتهم.
‎في سفح صغير بين قمتين في سلسلة جبلية تغطيها الثلوج في موقع ما من أوروبا كان المائتان وخمسون من النساء والرجال رفقة فريق لوجستي دقيق دقّة الساعات السويسرية يشتغلون في الخفاء وينجزون مؤتمرهم بعيدا عن كل عين وعن كل أذن وعن "عبد الصمد".

‎يومان بعدها بعد أن صار "كل شيء" من ذلك المؤتمر "لاشيء" يخرج رئيس الحركة الشيخ راشد الغنوشي على قناة الجزيرة من لندن (مقر إقامته حينها) مخبرا العالم أن حركة النهضة عقدت مؤتمرها السابع وتحدّث عن نتائجه.

 من بن علي إلى أبسط بوليس يتابع المؤتمر ومن قرطاج إلى الداخلية إلى باريس ومختلف العواصم الأوروبية كانت البهتة والخيبة والصدمة والغضب وعدم الفهم تصفع الجميع. ماذا جرى؟ وكيف؟ ومتى؟ وألف سؤال وسؤال.

‎ما كان منتظرا أن يحصل حصل. قبل أن يناموا هاتفوا"عبد الصمد". أسرعوا إلى المقهى الصغير ب Place Monge  بالمدينة العتيقة بالدائرة الخامسة، جاؤوه يَجْرون يطلبون الفهم وإلا فإن ساعتهم قد حلّت ومصيبتهم قد نزلت.

‎كان سبب اتصالهم واضطرابهم واضحا لديه فقد تم إعلامه منذ العشية بخروج الرئيس على الجزيرة.. ‎تركهم ينتظرون بالمقهى خمسًا وأربعين دقيقة زيادة في الشماتة والتنكيل وفي. الانتقام الحلو اللذيذ.  ‎حين وصلهم انهالوا عليه بالأسئلة مستفسرين كيف؟ ما الذي جرى؟ ألم تكن تعلم؟ أجابهم ببساطة: لا أدري، أنا مصدوم مثلكم غدا آتيكم بالجواب.

‎جاء "عبد الصمد" ضحى على مهل وهو يضحك بكل فيه شامتا وفرحا: خويا انتقمنا ونجحنا، طالبا حلا للورطة.

كان ذلك ضمن خطة دامت ثلاث سنوات كان هدفها عدم كشف المؤتمر وجوهرها إغراق أجهزة بن علي بالمعلومات حتى لا يقومون بأي جهد آخر فكل المعطيات كانت تصلهم يوما بيوم. لم تكن الإجابة صعبة ولم تتطلّب جهدا حتى يصدّق القوم ما جرى بنفس ما صدّقوا أنهم كانوا يتابعون كل ما كان يجري.

‎الله سبحانه خلق للإنسان لسانا بلا عظم، كان تكفي "كذبة صغيرة بيضاء ماكرة" مغلّفة بالأسف المصطنع والحزن الخادع على ما فات من جهد وتعب وأوقاتا ضائعة ومالا  مهدورا.

تقمّص "عبد الصمد" الدور كما يجب ليقنع مخاطبيه الذين ينتظرون على أحرّ من الجمر ويبحثون عن أي إجابة فالاتصالات من تونس لم تنقطع.

‎أجابهم بخبث وأسى وانكسار أن تلك "اللجنة" كانت وهمية ولا وجود لها وتقاريرها من صنع الخيال ومعلوماتها لا أساس لها. أنشئت واشتغلت للتغطية وصرف النظر عن اللجنة الحقيقية التي كانت تعدّ للمؤتمر وأنجزته بكل ذلك الستر بعيدا عن كل الأعين وأنه هو نفسه كان ضحية لذلك الملعون الذي كان يمدّه بتلك التقارير والأخبار المضللة.

‎وكانت نسخة من رسالة "غضب واستنكار واستقالة" من الأعضاء السبعة للجنة الوهمية موجهة لرئيس الحركة (الذي لا علم له بها ولم تصله أبدًا) الدليل الكافي لغلق الموضوع ولتصدّقها دولة بن علي والأجهزة أو لعلّها فضلت بلع السكين بدمها.
لكل مؤتمر حكاية..