مقالات مختارة

هل يتحول الحراك الدبلوماسي بين واشنطن وبكين إلى أفعال؟

الملف الأوكراني قد يكون المحرك لأي تفاهمات مستقبلية بين بكين وواشنطن- جيتي
هل كان هدف الحراك الدبلوماسي الأخير بين الصين والولايات المتحدة هو منع تدهور العلاقات بصورة أكبر؟ وهل بدأ العد العكسي لإنهاء الخلافات بين الطرفين؟ ما المتوقع من الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الأمريكي إلى بكين؟ أيمكن أن تقود الزيارة إلى صياغة حل للأزمة الأوكرانية؟ أم أن حل الخلاف حول تايوان هو الذي يحل كل الخلافات الأخرى بين الطرفين؟

أسئلة كثيرة اندفعت كحزمة واسعة بعد الزيارة الأخيرة، التي قام بها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى الصين، والتي جاءت بعد انقطاع دبلوماسي بين الطرفين على مستوى وزير الخارجية منذ عام 2018. وقد تأجلت هذه الزيارة في فبراير/ شباط الماضي، بعد الأزمة التي حصلت بسبب المنطاد الصيني، الذي أدعت الولايات المتحدة أنه كان يتجسس عليها فأسقطته، لكن تأكيدات الرئيس الصيني أثناء لقائه وزير الخارجية الأمريكي بالقول، إن البلدين أحرزا تقدما على صعيد تحسين علاقاتهما الثنائية، وتوصلا إلى أرضيات تفاهم، من دون أن يحلاّ أيا من الخلافات الجذرية بينهما، تُعطي تصورا واضحا بأن هناك شيئا إيجابيا قد حصل، وهو تبلور وعي لدى الطرفين بأن عليهما الشروع بترميم هذه العلاقة، ومحاولة إدارة التنافس القائم بينهما، بما لا يدع مجالا لأن يتحول إلى صراع. وهو ما تجسد في لقاء الوزير الأمريكي بالرئيس الصيني، الذي كان دليلا على الشروع بوضع الخلافات جانبا، والبدء بنوع من المراهنة على مفاوضات قد تستغرق وقتا إلى الأمام. ويسمى هذا الحراك في السياسة رؤية العين بالعين، وتلاقي النبرة بالنبرة، وهو فعل يُحسب بأنه إيجابي.

ومع ذلك تبقى حقيبة الزيارة خالية من التوقعات بإعادة العلاقات بين الطرفين إلى مسارها الطبيعي، فلم تنجح في الإعلان عن أي اتفاق بشأن المسائل الحساسة، التي تزايدت الفجوة فيها بين الطرفين خلال فترتي ترامب وبايدن. وكيف لنا أن نتوقع منها شيئا، بينما لم يثمر حتى اللقاء الذي جمع الرئيس الصيني بنظيره الأمريكي في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي على هامش قمة العشرين، عن تطور إيجابي في إعادة العلاقات إلى طبيعتها، رغم اتفاقهما على ذلك؟ بل العكس هو ما حصل، حيث شهد الواقع السياسي بينهما استمرارا في التدهور، بسبب التدخلات الأمريكية غير المبررة في الشؤون الداخلية الصينية، خاصة في ملف تايوان. كما حصلت استفزازات عسكرية أمريكية بانتهاك المياه والأجواء الصينية، أيضا كان هنالك انقطاع شبه كامل في الاتصالات بين الجانبين حتى في قضايا البيئة والمناخ، بما ينم عن وصول الثقة بين الطرفين إلى الحالة الصفرية.. وهذا يلقي ظلالا كثيفة من الشك في إمكانية نجاح زيارة وزير الخارجية الأمريكي في بث الحياة في عنصر الثقة، رغم أن الوزير الأمريكي أكد أن الولايات المتحدة ما زالت تتبع سياسة الصين الواحدة بالنسبة لملف تايوان، مما اعتبرها الكثير من المحللين بأنها حالة غزل سياسي محمود تستدر عنصر الثقة، لكن الصينيين يقولون نريد أفعالا في هذا الملف لا أقوالا يفندها الواقع. فالصينيون يعرفون جيدا أن المشكلة في واشنطن هي أن هناك إجماعا بين البيت الأبيض والكونغرس بشأن سياسة الصين الواحدة، لكن هذا على المستوى النظري فقط، أما على المستوى العملي فهناك تعامل ودعم وزيارات متبادلة مع المسؤولين في تايوان وهذا يثير حفيظة الصين، وبذلك تبقى قضية تايوان هي عقبة كبيرة في معادلة العلاقة بين الطرفين، لكن يمكن القول بأن الأمر الإيجابي الذي حققته الزيارة كان على مستوى الاقتصاد السياسي، لاحظنا أن بلينكن قالها صريحة، إن واشنطن لا تسعى لاحتواء الصين في الجانب الاقتصادي، في المقابل سمعنا بأن الرئيس الصيني يقول، إن الصين لن تتجاوز المكانة الاقتصادية والمكانة السياسية للولايات المتحدة، وهنا لا بد من القول بأن الاقتصاد الصيني يرتكز بالدرجة الأولى على حجم المبادلات التجارية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، حتى أن البرازيل وجنوب أفريقيا، الدولتين القويتين في مجموعة البريكس، ترتبطان بالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وهذا ما يفنّد ما يقوله البعض من أن الصين في بداية تشكل لقطبية تنافس قطب الولايات المتحدة، رغم أن الزمن يثبت بالتدريج أن نظاما عالميا جديدا ثنائي القطبية، أو متعدد الأقطاب يتشكل، ونشاهد على أرض الواقع تشكل تحالفات كثيرة يندفع إليها العديد من الدول في الجنوب العالمي، سواء رغبة في الابتعاد عن المشروطية السياسية، التي ارتبطت بها المؤسسات الدولية، التي يصنفها البعض بأنها ناجمة عن الإطار القيمي الغربي، مما يجعلها لا تشمل معظم دول العالم، كذلك سياسة ربط المعونات الاقتصادية بالشروط السياسية، مثل مسألة حقوق الإنسان، والتدخل في الشؤون الداخلية للدول. أيضا سياسة فرض العقوبات الاقتصادية بشكل أحادي، ومن خارج إطار مجلس الأمن الدولي، الذي بات لا يلقى قبولا من كثير من الدول. وقد شاهدنا خروج الهند من الإجماع الغربي في فرض العقوبات على روسيا، كل هذه أصبحت قضايا غير مقبولة لدى الكثير من دول العالم، بالتالي تشكّل اتجاه عالمي ملحوظ ضد الهيمنة الأمريكية على المقاليد الدولية.

أما في ما يراه البعض من أن الملف الأوكراني قد يكون المحرك لأي تفاهمات مستقبلية بين بكين وواشنطن، فيمكن القول إنه من أهم الملفات على أجندة العلاقات بين الدولتين، فالصين دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن، وهي أكبر شريك تجاري لروسيا، ورفضها العقوبات الاقتصادية كسلاح ضد موسكو، شكّل ضربة كبيرة للدبلوماسية الأمريكية، لأن مساندة الصين وتنامي علاقاتها مع موسكو يهددان استمرار الهيمنة الأمريكية على المقاليد الدولية. بالتالي تنظر واشنطن بمزيد من القلق والترقب لمثل هذه العلاقة المتنامية بين الجانبين. فكلما توطدت هذه العلاقة على المستويات الاقتصادية والعسكرية، أذنت بمولد نظام عالمي جديد، خاصة عند انضمام عدد أكبر من الدول، سواء في تحالفات جديدة مثل بريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون، وبذلك قد يكون بداية لموجة عالمية جديدة تطيح بهيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي. وعليه فمن مصلحة الولايات المتحدة فرملة هذا التقارب ومحاولة الضغط على الصين لإبعادها عن روسيا، والاصطفاف مع الدول الغربية في مواجهة موسكو. وقد حاولت الصين أن تلعب موقفا محايدا إلى حد كبير بين الغرب وروسيا، ولكن يبدو أن هذا الموقف المُحايد والمتوازن لم يلق قبولا لدى واشنطن. من هنا بدأت هذه الأخيرة تلوّح بورقة تايوان ومقابلة كبار المسؤولين الأمريكيين للمسؤولين في تايوان، والتعهد بمساعدتهم عسكريا.

إن أية قراءة للغة البيانات الدبلوماسية الصادرة عن بكين وواشنطن، لا تساعدنا على أن نستشف الكثير منها، فكل طرف يدفع بكل ما لديه لتعزيز نفوذه وتغليب مصالحه. ففي الوقت الذي كانت فيه تغريدة وزير الخارجية الأمريكي ذات لغة هادئة تتحدث عن (إمكانية إدارة العلاقات بمسؤولية عبر طرق مفتوحة للتواصل)، كانت لغة الجانب الصيني تذهب إلى اعتماد ضغط أكبر وأكثر التصاقا بواقع الحال، حيث أكد كبير مسؤولي الشؤون الخارجية الصيني لوزير الخارجية الأمريكي، ضرورة اختيار بكين وواشنطن بين التعاون أو الخلاف. كما قال إن العلاقة بين الصين والولايات المتحدة في أدنى نقطة منذ انطلاقتها، وهذا لا يخدم المصالح الأساسية للشعبين ولا يلبي التوقعات المشتركة للمجتمع الدولي.


(عن صحيفة القدس العربي)