تقارير

تجربة العدالة والتنمية في تركيا.. هل تعزز سياسة التدين بالتدريج؟

ما هي معالم ونتائج سياسات حزب العدالة والتنمية التركي الدينية؟ آراء وتقييمات.. (عربي21)
كشفت تجربة حزب العدالة والتنمية منذ توليه زمام السلطة في تركيا عام 2003 حتى الانتخابات الأخيرة التي فاز فيها الرئيس الطيب رجب أردوغان عن توجهات وسياسات (صامتة) تهدف إلى توسيع دوائر التدين الرسمي والشعبي في تركيا، ما نتج عنه زيادة مظاهر وأعمال التدين في المجتمع التركي.

يُذكر في سجل إنجازات حزب العدالة والتنمية على الصعيد الديني، زيادة الاهتمام بالمدارس الدينية التي ترعاها الدولة، وعقد دورات مكثفة لتخريج حفاظ القرآن الكريم، والتي قاربت أعدادهم في سنة واحدة الـ12 ألف حافظ، وإنهاء حظر الحجاب في المؤسسات الرسمية والحياة العامة، وسياسة وقوانين الحد من بيع الخمور، وزيادة ضريبة استهلاكها..

وعلى العموم، ووفقا لباحثين فإن ثمة "سمة أساسية لحزب العدالة والتنمية، تتعلق بفهمه البراغماتي للسياسة ذات المرجعية الدينية، وهذا الفهم هو الذي يسمح للحزب أن يشغل بأريحية موقعا بين العلمانية الإقصائية من جهة والإسلام من جهة أخرى، وفقا لهذا المنظور، يمكن للأفراد والجماعات المسلمة الترويج لآرائها الإسلامية في نظام ديمقراطي من خلال العمليات التشريعية والمشاركة في المؤسسات السياسية أو القضائية، والمشاركة مع المجتمع المدني، ووسائل الإعلام".

ما أنجزه حزب العدالة والتنمية خلال سنوات توليه السلطة في العقدين السابقين، أين يقع في جدلية تطبيق الأحكام بين من يرى وجوب تطبيقها دفعة واحدة، وبلا تأخير، وبين من يتبنى سياسة التدرج في تطبيق أحكام الشريعة، لأسباب واعتبارات معينة، وهل تلك التجربة تصب في صالح سياسة توسيع دوائر التدين في المجتمعات العربية والإسلامية بالتدريج، وباتت أكثر إقناعا باستثمار كل الهوامش التي تتيحها القوانين النافذة في تلك الدول، أم إنها سرعان ما تزول وتتلاشى إذا ما كانت نتائج الانتخابات لصالح معارضي تلك السياسات؟

في حديثه عن التدين التركي المعاصر، أكدّ الباحث والأكاديمي المغربي، المتخصص في الفقه الإسلامي وأصوله، الدكتور أحمد الزقاقي أنه "لا يمكن الحديث عن ذلك دون استحضار ثلاثة عناصر رئيسة وهي: التصوف والتاريخ والقومية، فالتصوف باعتباره إحساسا روحيا بدور الدين في الحياة، كما دعا إليه وعاشه ـ في البيئة التركية ـ متصوفون كبار كجلال الدين الرومي، ورفده بديع الزمان سعيد النورسي بثقافة شرعية وعصرية".


                         أحمد الزقاقي، باحث وأكاديمي مغربي متخصص في الفقه وأصوله

وأضاف: "أما التاريخ فمن حيث حضور الإرث العثماني في تفاصيل الحياة التركية بالرغم من محاولة أتاتورك والأتاتوركيين إهالة التراب على تلك الفترة المهمة، والقومية من حيث اعتزاز الأتراك المعروف بوطنهم، وهو اعتزاز أمدته تجربة (العدالة والتنمية) بنفحات دينية وجرعات إيمانية، وهو ما بدا وظهر أيضا في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة، حيث اصطف القوميون المعتدلون إلى جانب الرئيس الفائز أردوغان".

وواصل الزقاقي حديثه لـ “عربي21" بالقول: "وإذا كان من مصاديق التجديد استخلاص المصطلحات والمفاهيم من التشويهات المتعمدة التي تطالها في ميدان الاستعمال، فيُحسب لحزب العدالة والتنمية أنه استطاع تهذيب مصطلح العلمانية، ليستقر الأمر على علمانية منفتحة تقترن بحرية التعبير والمعتقد، ولاتعادي الدين إطلاقا، وهو ما أدّى إلى زيادة المؤسسات الدينية، وازدياد نسبة التدين في المجتمع، واستعادة مؤسسات دينية تقليدية لأدوارها التاريخية والثقافية الفاعلة كدور القرآن، ومراكز تكوين الأئمة، وأردوغان نفسه هو أحد خريجيها".

ونبّه إلى أهمية "جاذبية النموذج لرئيس مؤمن أمين، لا يسرق ولا يكذب على شعبه، مع وجود زوجته المحجبة إلى جانبه داعمة ومحفزة، وهو رئيس يفي بوعوده، ولا يعرف معنى للغة الانهزامية، وهذه هي نفسها أخلاقيات الدين عندما يركز على المعاملة، ولا يكتفي بالشعارات".

وطبقا للزقاقي فإن حزب العدالة والتنمية "اتجه أول شيء إلى تشييد قواعد الممانعة لا المنع، لأن المنع بسلطة القانون وحده دون اطمئنان واقتناع يُكثِّر سواد المنافقين فقط، واستعان بنخب كَوَّنها فجعلها تجمع بين الفكر والتبصر بالواقع، ويتخصص كثير منها في المال والأعمال، بذلك استطاع أن يُنجز ثورة هادئة من غير جلبة ولا صراخ، واستعمل الكثير من الحيلة في مواجهة مراصد التجسس والمراقبة الغربية والعالمية" على حد قوله.

وفي تقييمه للتجربة التركية رأى أن "الإشكالية الكبيرة التي سيظل حزب العدالة والتنمية مدعوا إلى حلها هي مسألة العلاقة بين (الدعوة) و (الدولة)، فما الغرض من بناء الدولة القوية.. هل هو مجرد التمتع بالرفاه وإشباع الحاجات المادية؟ ما هو حظه من (الصفة الإسلامية) إن أعرض عن تبصير الناس بدينهم وأحكامه وأخلاقه ومقاصده، مع احترام الأقليات وذوي الديانات المخالفة؟".

وتساءل عن أمر هام له تبعاته على التجربة برمتها مستقبلا بالقول: "كيف يتجذر الوفاء للإسلام في القلوب بالرغم من تغير الحاكمين واختلاف مشاربهم السياسية والأيديولوجية؟"، ليجيب بأنه "لا سبيل إلى كل ذلك إلا بالإشعاع الروحي، والسلوك الأخلاقي في المجتمع، وتفريغ نخبة للدعوة حتى لا تستهلكها وتهلكها السياسة وماجرياتها وتقلباتها..".

من جهته قال الكاتب الأردني، ليث التل: "بما أن النقاش يدور حول تجربة إسلامية، فتكون محاكمتها إلى قواعدها وأصولها، وأصول الإسلام تفيد بأن مظاهر التدين من حجاب وحفظ للقرآن، وعدم شرب الخمر هي نتاج لأصل الإيمان بالله، والتسليم له في كافة الشؤون الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وقصر المحاكمة على السلوك فقط مردود شكلا، إذ يخرج الدين عن طبيعته وعن أصله الذي جاء به".


                                                    ليث التل.. كاتب أردني

وأردف: "وكما كل الأديان والعقائد السماوية والأفكار البشرية التي تنبثق عنها ممارسات سلوكية فإن رسالة الإسلام، وتجارب التمكين البشرية تفيد أن لا فكر ولا سلوك ينبثق عنه؛ يتمكن في ميدان الحياة العامة إلا بقوة تحميه وتجيزه وتمضيه، لذلك فما جاءت به صناديق الاقتراع تذهب به بالضرورة".

وتابع حديثه لـ "عربي21" بالقول: "وبما أن مظاهر التدين هذه جاءت عبر علمانية أردوغان الناعمة، والتي تسمح للمحجبة بالحجاب، وللمتعرية بالتعري، بخلاف العلمانية الشرسة التي تحارب الدين، فإن مظاهر التدين التي انتشرت هي على الحقيقة مظاهر حرية يقابلها حرية مضادة تدحضها في حالة سيطرة الطرف الثاني من المعادلة".

وأكمل التل: "إضافة إلى أن الأولى تورث الأجيال دينا مبدّلا علمانيا، فما لله فيه لله، وما لقيصر فيه لقيصر، يفرح الناس فيه بالمظهر، وينسون الجوهر الذي أصله أن تكون السيادة والحكم والتشريع فيها للإسلام لا لرأي الناس"، لافتا إلى أن "وجود النفع في مظاهر التدين في المجتمع غير كاف للحكم على نجاح الظاهرة، خاصة أن الشرع لا يقارن بين النفع والضرر، بقدر ما يقارن بين النفع والإثم، فإن وجد الإثم بطل النفع، مصداقا لقوله تعالى في الخمر والميسر (وإثمهما أكبر من نفعهما)، ولم يقل ضررهما، فحرم الخمر والميسر على ما فيهما من إثم".

وأبدى التل انتقاده لمنهج حزب العدالة والتنمية، مؤكدا على أن "المنهج القرآني في الاتباع يؤدي بالضرورة إلى العمران والعدل ولو بعد حين، بخلاف منهج العدالة والتنمية الذي مؤداه إن فشل؛ خسارة امتيازات مظاهر التدين، وإن نجح، فمؤداه علمانية مؤمنة لا تختلف عن علمانية بريطانيا وأمريكا التي تسمح بمظاهر التدين، بل ربما هي عندهما أكثر من تركيا".

وفي ذات الإطار لفت الكاتب الصحفي المصري، المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية، والمقيم في تركيا، سمير العركي إلى أن "حزب العدالة والتنمية برئاسة أردوغان اتبع سياسة واضحة منذ اعتلى منصة الحكم عام 2002، وحتى الآن، ألا وهي فتح المجال العام أمام الجميع، والتصدي لتقييد الحريات".


                       سمير العركي، كاتب صحفي مصري، متخصص في الحركات الإسلامية

وأضاف في تصريحاته لـ"عربي21": "وهي السياسة التي استفاد منها التيار المحافظ الذي عانى في ظل الحكومات السابقة، فكان من الطبيعي أن تنتشر الفاعليات والبرامج المعبرة عن هذا التيار مثل تحفيظ القرآن الكريم، وتدريس السيرة النبوية للفئات العمرية الصغيرة، علما بأن كثيرا من تلك الفاعليات تتم بإشراف رئاسة الشؤون الدينية الرسمية".

وعن مدى نجاح التجربة التركية في تعزيز سياسة توسيع التدين بالتدريج، ما يجعلها أنموذجا في ذلك الاتجاه، أشار العركي إلى أن "جزءا من التيار العلماني ـ كما تابعنا ذلك في الانتخابات الأخيرة ـ لا يزال غير متقبل لتلك التطورات، وفي تقديري أنه لو أتيحت له الفرصة فلن يتردد في العصف بكل المكتسبات التي أنجزها حزب العدالة والتنمية".