عندما تتكرر حادثة
محمد البوعزيزي بعد 11 عاما من وفاته، يجب التوقف لفهم الأسباب العميقة التي أعادت
اليأس إلى نفوس بعض
الشباب في
تونس. فمحمد علي الدريدي شاب في مقتبل العمر، هو أيضا
بائع متجول، وجدوه مشنوقا في بيته بعد أن قام أعوان بلدية "مرناق" بمنعه
من العمل في أسواق المدينة، فقرر أن يضع حدا لحياته. كما سبق لشاب في العقد الثاني
من عمره من أبناء مدينة القيروان أن سكب البنزين على جسده واحترق حتى الموت، بتاريخ
25 آب/ أغسطس الماضي. وقبل ذلك بفترة وجيزة ارتفع عدد
عمليات الانتحار إلى تسع حالات
خلال شهر أيار/ مايو من السنة الجارية من بينها محاولة فاشلة. ماذا يعني ذلك؟
تتوالى المؤشرات الدالة
على أن التونسيين، وبالأخص الشباب منهم، قد ضاقوا ضرعا بأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية.
طاقة التحمل لديهم تتراجع يوما بعد يوم، والأمل الذي راود الكثير منهم مساء يوم 25
تموز/ يوليو 2021 انخفض بشكل مخيف، وذلك بعد أن توقعوا بأن "المهدي المنتظر"
قد ظهر ليملأ البلاد عدلا بعد أن ملأها السابقون فسادا واستغلالا. لكن بعد مرور أكثر
من سنة وشهرين على تلك "اللحظة الاستثنائية" كما تعامل معها المخيال الشعبي،
تحول ذلك إلى ما هو أشبه بالسراب والأوهام، وما خلفه ذلك من صدمة موجعة في سياق زمني
معروف يتكرر في تونس خلال
الأزمات، حيث يتصاعد الغضب الشعبي خلال شهري كانون الثاني/
يناير وشباط/ فبراير.
بعد مرور أكثر من سنة وشهرين على تلك "اللحظة الاستثنائية" كما تعامل معها المخيال الشعبي، تحول ذلك إلى ما هو أشبه بالسراب والأوهام، وما خلفه ذلك من صدمة موجعة في سياق زمني معروف يتكرر في تونس خلال الأزمات، حيث يتصاعد الغضب الشعبي خلال شهري كانون الثاني/ يناير وشباط/ فبراير
من هذه المؤشرات الارتفاع
الصاروخي لعدد
المهاجرين السريين عبر قوارب الموت، وذلك بالرغم من تشديد الرقابة وإنفاق
الإيطاليين وعموم الأوروبيين مئات الملايين من اليوروهات، وتعاون السلطة التونسية معهم
من أجل إيقاف هذا الزحف، لكن النتائج جاءت عكسية.
عائلات بكاملها أصبحت
تخوض المغامرة، واليافعون واليافعات انخرطوا بكثافة في هذا النمط من الهجرة خلال السنتين
الأخيرتين، كما بدأت شبكات تهريب البشر تستقبل زبائن جددا تخطت أعمارهم الستين عاما.
إنه الهروب الجماعي للتونسيين من بلدهم، ومن بقي في البلد ينتظر الفرصة ليقفز في البحر.
من جهة أخرى، عادت
التحركات الاحتجاجية إلى الأحياء الشعبية. وهي ظاهرة كانت بمثابة اللعنة التي أرعبت
الحكومات المتعاقبة، لأنها تكون بمثابة الإعلان عن فشل سياسات وإيذانا برحيل سياسيين
ثبت فشلهم وعجزهم عن إدارة شؤون البلاد. وقد نزل الشباب العاطل عن العمل والمهمش هذه
الأيام بالمئات في نفس الحي الذي كان يقطنه
قيس سعيد قبل أن يصبح رئيسا؛ ووعدهم بأن
يغير واقعهم البائس إلى الأفضل.
سيقول البعض إن هذه
الظواهر معروفة ومتكررة، برزت خلال المرحلة السابقة التي يحلو للبعض أن يصفها بالعشرية
السوداء. وهو قول صحيح، فانتحار الشباب حرقا وشنقا حصل من قبل اليوم، لكن تم تحميل
المسؤولية لمن كانوا في السلطة، الذين دفعوا ثمنا باهظا نتيجة عدم قدرتهم على مواجهة
تلك المآسي بحزم وجدية وحلول جذرية. والسؤال اليوم: هل تغير الحال بعد إسقاط البرلمان
وتغيير الدستور؟ وهل يمكن إقناع التونسيين حاليا بأن
انتخابات كانون الأول/ ديسمبر
القادم ستمثل الجواب الشافي عن هذه الحيرة التي تلف الجميع وتنذر بسقوط تونس في وادي
سحيق؟
الشعارات المرفوعة هنا وهناك من قبل المحتجين دليل قاطع على أن البلاد تسير في الاتجاه الخطأ، ويفترض أن يستمع رئيس الدولة لهؤلاء الشباب الذين صدقوه وراهنوا عليه، في حين اليوم يطالبون بمحاسبته على ما فعل منذ توليه السلطة وانفراده بالقرار
الشعارات المرفوعة
هنا وهناك من قبل المحتجين دليل قاطع على أن البلاد تسير في الاتجاه الخطأ، ويفترض
أن يستمع رئيس الدولة لهؤلاء الشباب الذين صدقوه وراهنوا عليه، في حين اليوم يطالبون
بمحاسبته على ما فعل منذ توليه السلطة وانفراده بالقرار. لقد انطلقت الاحتجاجات في
البلاد، وهو أمر اعترف به حتى أنصار الرئيس، حيث توقع أحد المقربين منه (أحمد شفتر)
أن تونس "ستعيش في الايام القادمة انفجارات اجتماعية".
يوسف الصديق، هذا
المثقف الحر والذي يطالب منذ سنوات بإبعاد الدين عن الشأن العام، ويحمّل
حركة النهضة
وعموم الإسلاميين مسؤولية المأزق الذي تعاني منه تونس، توجّه هذه المرة نحو الرئيس
سعيد مباشرة، قائلا: "أنت لست رحيما بشعبك، والبلد يشعر بأنك تحتقره، وتنتظر الولاء
الأعمى، وهو ما من شأنه أن يضر".
عندما يقف المرء أمام
المشهد العام، ويسأل أصحاب الرأي خاصة الصادقين منهم، يحس بإرهاصات زلزال قادم، ويشعر
بقرب طوفان لن يبق ولن يذر. قد يرى البعض في مثل هذا التوقع مبالغة وتضخيما للوقائع
والأحداث، لكن رغم أن هذه الحالة المستعصية مرشحة لكي تطول وتمتد عبر الزمن وقد تستمر
سنة أو سنتين، وهي فترة لا تقاس بها حركة التاريخ، غير أن الأهم من ذلك هي النظرة الاستشرافية
التي تكشف أن المستقبل لا يحمل في طياته حتى الآن مؤشرات واعدة بأن القادم سيكون أفضل،
إذ لا توجد سياسات جاهزة من شأنها أن تغير اتجاه البلاد وتبعدها عن المطبات الكبرى
التي تنتظره في الطريق، والتي طالما نبه إليها الخبراء والمختصون في الشؤون التونسية.
البلاد تسير نحو الخلف، ومع كل خطوة تصبح الأوضاع أكثر سوءا وتعقيدا.