قضايا وآراء

العقوبات الدولية بين المشروعية والفعالية.. حالة روسيا

1300x600
العقوبات الدولية أو بمعنى أصح الجزاءات الدولية نوعان؛ النوع الأول هو الذي تفرضه دولة على دول أخرى على سبيل الانتقام أو الضغط لتحقيق أهداف معينة، ومثال ذلك ما شاع في السلوك الأمريكي ضد أكثر من ربع عدد أعضاء المجتمع الدولي. وقد كيّف الفقه الأمريكي هذا النوع من العقوبات بأنه إجراءات مضادة تستقل الدولة بسيادتها في تقريرها وفرضها، وهي أداة من أدوات إدارة السياسة الخارجية. ويقابل هذه العقوبات المعونات، ولذلك فإن الدولة تلعب بورقة المعونات والعقوبات العصا والجزرة.

والمثال الأوضح لذلك، هو العقوبات الأمريكية التي فرضتها واشنطن على إيران، والحق أن هذه العقوبات ليس لها أساس قانوني، وإنما يعتبر من قبيل الفوضى التي تشيعها واشنطن في العلاقات الدولية. الهدف المعلن لهذه العقوبات يختلف تماما عن الهدف الحقيقي، وكلاهما لا يستند إلى أي أساس قانوني.

الثورة الإسلامية في إيران قلبت موازين المصالح الأمريكية في المنطقة، وتحدت واشنطن طوال أربعين عاما وتمكنت إيران من الصمود في وجه هذه العقوبات. ثم قدمت واشنطن أساسا جديدا لهذه العقوبات، وهو إضعاف إيران حتى لا تهدد المصالح الأمريكية في المنطقة، وحتى لا تساعد المقاومة ضد إسرائيل، وحتى لا تنفذ تهديدها المستمر بمحو إسرائيل من الخريطة، ولا تزال هذه العقوبات مفروضة حتى الآن، رغم أن الاتفاق النووي كان يقضي برفعها، ولكن الرئيس ترامب سحب واشنطن من الاتفاق وأعاد فرض هذه العقوبات، ولذلك كشف زيف هذه الأهداف، بل إن واشنطن تجاسرت ودفعت مجلس الأمن إلى مخالفة ميثاق الأمم المتحدة، ففرض عقوبات أيضا على إيران انتهاكا لميثاق الأمم المتحدة. ولذلك، عندما أعاد ترامب فرض العقوبات الأمريكية بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، لم يجرؤ على معاودة فرض عقوبات مجلس الأمن على إيران.

النوع الثاني من العقوبات هو الأصل، وهو إجراءات القمع التي يقررها مجلس الأمن ضد الدولة التي تنتهك القانون الدولي وتهدد السلم والأمن الدولي. وهذه العقوبات التي يقررها مجلس الأمن على درجتين؛ الدرجة الأولى هي إجراءات القمع غير العسكرية، والثانية إجراءات القمع العسكرية، ولفرضها عدد من الشروط الصارمة في الميثاق، حيث يقرر مجلس الأمن أن الدولة انتهكت الميثاق وأنها تهدد السلم والأمن الدولي وفق المادة 39 من الميثاق، فيفرض إجراءات مؤقتة أملا في دفع هذه الدولة عن موقفها وفقا للمادة 40 من الميثاق، فإذا لم تفلح هذه الإجراءات المعقدة، انتقل مجلس الأمن إلى إجراءت المادة 41 من الميثاق، وهي إجراءت لا تنطوي على استخدام القوة المسلحة، فإذا لم تفلح انتقل إلى إجراءت القمع العسكرية في المادة 42.

ولكن تطور مشاكل العلاقات الدولية، أدى إلى تعطيل نظام الجزاءات في الأمم المتحدة، ولذلك لم ينفذ إلا مرتين في حالة العراق بعد اعتدائه على الكويت، فأصدر مجلس الأمن عددا متلاحقا من القرارات التي قامت بتفعيل نظام الجزاءات بالكامل غير العسكري والعسكري أيضا، وانتهى الأمر بتشكيل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة المتحدة على قرارات مجلس الأمن.

وكانت الولايات المتحدة أيضا قد حشدت قوات دول حليفة بمناسبة الحرب الكورية؛ حتى تتصدى لهجوم كوريا الشمالية على كوريا الجنوبية عام 1950. وبهذه المناسبة، فإن واشنطن لجأت إلى الجمعية العامة لأول مرة بعد شلل مجلس الأمن بسبب الفيتو السوفييتي، في ما عرف بعد ذلك بقرار الاتحاد من أجل السلم، وهو القرار الذي لم يطبق إلا بمعرفة واشنطن أيضا ضد روسيا في منتصف آذار/ مارس 2022 بمناسبة الأزمة الأوكرانية.

أما فعالية العقوبات الدولية التي تتخذها دولة ضد دولة أخرى، فهي تختلف من حالة إلى أخرى، ولكنها كانت دائما تلحق الضرر بالشعوب والأوطان، خاصة أنها استخدمت ضد دول دكتاتورية؛ فالحاكم لا يعاقب ولا تمتد إليه هذه العقوبات، وإنما قد تزدهر مكاسبه، ولكن الشعوب هي التي تعاني. حدث ذلك في كل الحالات التي فرضت فيها واشنطن العقوبات على أكثر من خمسين دولة، ونستثني من ذلك نموذج الصين الشعبية، التي شنت عليها واشنطن سلسلة من العقوبات والحروب الاقتصادية والتجارية دون أن تنال من مواقف الصين.

فعالية العقوبات ضد روسيا بسبب أوكرانيا

لا شك أن فرض العقوبات من جانب دول الغرب ومؤسساته على روسيا يهدف إلى إضعاف الدولة الروسية أساسا، ولا يطمح إلى الضغط على الرئيس الروسي لسحب قواته من أوكرانيا؛ لأن الغرب يعلم تماما أن الغزو الروسي لأوكرانيا قصد به الرد على تحريض الغرب لأوكرانيا للنيل من المصالح الأمنية الروسية، ولكن ثبت أن مؤسسات المجتمع الدولي ومنظماته تتأثر بالنفوذ الغربي، كما تتأثر بظاهر انتهاك روسيا للقانون الدولي، ولذلك تمت عزلة روسيا.

كما أن محكمة العدل الدولية أصدرت قرارا يأمر روسيا بسحب قواتها فورا من أوكرانيا، بالإضافة إلى أن المحكمة الجنائية الدولية بدأت التحقيق فيما نسب إلى القوات الروسية من جرائم تدخل في اختصاص المحكمة.

أما على المستوى الاقتصادي، فإن آثار العقوبات سوف تكون فادحة بالنظر إلى حقيقتين؛ الحقيقة الأولى هي أن العقوبات الغربية على روسيا جزء من الصراع السياسي الروسي الغربي، والحقيقة الثانية هي كبر حجم الاقتصاد الروسي في الاقتصاد العالمي. ولذلك فإن العقوبات التي قررها الغرب على روسيا على كل المستويات، ظاهرها مشروع ويستند إلى قرار الجمعية العامة في منتصف آذار/ مارس 2022، الذي أكد مبادئ القانون الدولي وطالب روسيا بسحب قواتها من أوكرانيا وأدان غزوها لأوكرانيا. وقد حصل القرار على معظم أصوات أعضاء الأمم المتحدة، ولم تعترض عليه إلا ثلاث دول إذا استبعدنا روسيا وروسيا البيضاء، وحتى الدول التي امتنعت عن التصويت حسبت مع الدول التي أيدت القرار من الناحية الموضوعية.

أما لماذا لم تقرر الأمم المتحدة العقوبات ضد روسيا ما دام أساسها القانوني متوفرا؟ فذلك يرجع إلى استحالة صدور قرار من مجلس الأمن في هذا الشأن مع وجود الفيتو المزدوج الصيني الروسي.

وهكذا يتضح أن الحالة الروسية حالة فردية لا يقاس عليها، فتلك المرة الأولى بعد الحرب العالمية الثانية التي تتقرر فيها عقوبات ضد دولة عظمى.