قضايا وآراء

سؤال السودان ومصر التي في أوقيانوسيا

1300x600
حديثنا ما زال عن السودان، ولكن مع اتساع النظرة قليلا لتشمل بعض ما يحدث في ليبيا وإثيوبيا، وسؤالنا المعلق: كيف يمكن فهم موقف مصر الرسمية من كل هذا؟

مضى الأسبوع بإيقاعه المتوقع: تحرك الانقلابيون خطوة، وكذلك فعل التياران الرئيسان اللذان يواجهانهم، مع اتساع الهوة بينهما، وتحركت القوى الإقليمية والدولية بذات الإيقاع المتمهل؛ إذ قرر الاتحاد الأفريقي إيفاد مبعوث إلى السودان للوساطة، قريبا، وحث في بيان قادة الجيش السوداني على اتخاذ خطوات فورية بغية استئناف النظام الدستوري (الوثيقة الدستورية، والشراكة بين المكونين العسكري والمدني، كما كان الوضع قبل الانقلاب في 25 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي). أما الاتحاد الأوروبي، فدعا الجيش السوداني للعودة إلى مسار الحوار مع المدنيين، وقال في بيان أصدره: "إن إجراءات الجيش منذ 25 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي تقوض التقدم الذي أحرزته الحكومة بقيادة المدنيين". وحذر البيان من عواقب وخيمة لهذه الإجراءات على دعم الاتحاد الأوروبي للسودان، مؤكداً أن العودة إلى حوار شامل ستضمن الحرية والسلام والعدالة للجميع في السودان.

أولى الخطوات كانت السبت الماضي، مع التظاهرة المليونية التي دعا إليها تجمع المهنيين السودانيين، وقد أوفى المتظاهرون بما هو منتظر؛ بذلوا الدماء، وسقط منهم ضحايا وجرحى (أكدت مصادر طبية متطابقة مقتل خمسة محتجين وإصابة أكثر من 70 خلال مسيرات "مليونية 13 نوفمبر" المطالبة بمدنية الدولة)، وأثبتوا أن المسير ما زال طويلا، وأنهم جاهزون.

في اليوم التالي، عقد مجلس "السيادة الانتقالي"، المزعوم، اجتماعه الأول في الخرطوم، بكامل عضويته، وبرئاسة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، الذي ردد كلاما سخيفا مكررا، وأطلق "وعدا برؤية مستقبلية جديدة، تحقق أهداف ثورة ديسمبر المجيدة، وفي مقدمتها تنفيذ شعارات الثورة في الحرية والسلام والعدالة"، ثم وكأن الجماهير تُلوّح له بالزهور "تعهد أعضاء المجلس الجديد بتقديم نموذج أمثل في إدارة شؤون البلاد بصورة ترضي الشعب السوداني، وتشكيل حكومة مدنية في الأيام القليلة المقبلة".

وقد عبرت الولايات المتحدة ودول غربية عن قلقها البالغ بعد تعيين البرهان لمجلس سيادة جديد، وردا على مسيرات السبت قالت البعثة الأمريكية في الخرطوم: "تأسف السفارة الأمريكية بشدة لخسارة أرواح وإصابة عشرات المواطنين السودانيين الذين كانوا يتظاهرون اليوم من أجل الحرية والديمقراطية، وتندد بالاستخدام المفرط للقوة".

ثم كان أن عقد المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير اجتماعا شارك فيه كما جاء في البيان الذي أُعلن في ختامه، 24 حزبا وحركة سياسية ومنظمات مجتمع مدني سودانية، وأعلنت "تكوين جبهة وطنية عريضة من خلال التواصل مع قوى الثورة الفاعلة بهدف استعادة السلطة المدنية كاملة غير منقوصة". ودعا البيان المجلس "السيادي" (المزعوم) إلى منح كامل الحرية لرئيس الوزراء عبد الله حمدوك والسماح بعودته لمزاولة مهامه وفقاً للوثيقة الدستورية، وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين والتمسك بنصوص الوثيقة الدستورية الموقعة في آب/ أغسطس 2019 المعدلة في تشرين الأول/ أكتوبر 2020، كما طالب البيان بمحاكمة من تثبت مسؤوليتهم عن مقتل وجرح عدد من الأشخاص يوم 13 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري.

وعلى الفور، أصدر تجمع المهنيين بيانا نفى فيه مشاركته في اجتماع المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير، ووصف بيان "المركزي" بأنه "مؤسف"، وأنه يؤكد "انفصامه (المركزي) الكامل عن الواقع وعن نبض الشارع والقوى الثورية". ودعا تجمع المهنيين لـ"تكوين الجبهة الثورية الواسعة، وتأسيس السلطة الوطنية المدنية الانتقالية الخالصة من قوى الثورة الملتزمة بلاءاتها الواضحة (لا تفاوض، لا مساومة، لا شراكة)، وهي جبهة محمية ضد الاختطاف والتزوير والنكوص، تتكامل فيها أدوار القوى الثورية القاعدية، ممثلة في لجان المقاومة بالأحياء والفرقان والقوى النقابية للمهنيين والعمال والحرفيين والمزارعين والأجسام المطلبية، جبهة لا تنحرف عن مسار التغيير الجذري وأهداف ثورة ديسمبر في القطيعة مع عهود الظلم والاستغلال، وتؤسس لدولة المواطنة والحقوق والحرية الكاملة والسلام المستدام والعدالة الشاملة".

* * *

هذه هي الصورة العامة في بداية الأسبوع الرابع: الإنقلابيون ماضون في محاولتهم، المتلكعة، وجزء من قوى الثورة، يدعو للعودة إلى ما قبل 25 أكتوبر، وجزء آخر يفترق عنها، ويعلن "لن نكون جزءا من أي دعوات للتسوية مع السلطة العسكرية".

ما زال هناك أمل، ولو كان ضئيلا، أن تفضي مطالبات وضغوط المنظمات الدولية (الأمم المتحدة، البنك الدولي)، والإقليمية (الاتحادان الأفريقي والأوروبي) وبعض الدول (الغربية) إلى عودة الحكومة المدنية، برئاسة حمدوك، لكن مثل هذه "التسوية" لا تعني إلا العودة إلى الوضع غير المستقر، والهش، الذي كان عليه السودان طوال العام المنصرم. ثم إن هذه "التسوية" الوسط لن تحمل أية إمكانية للمضي قدما في بناء سودان جديد، إنها فقط مجرد تأجيل "تكتيكي" لصِدام يبدو حتميا، ولن يرى فيها قادة الجيش السوداني وحلفاؤهم الإقليميون إلا محطة انتظار لفرصة أكثر ملاءمة للاستيلاء على السلطة.

تجمع المهنيين السودانيين يعي ذلك جيدا، ولذلك جاء بيانه الأخير (مساء الإثنين) داعيا إلى "ضرورة تنوّع تكتيكات المقاومة السلمية وتكامل أدوار قوى الثورة"، وهو ما يمكن وصفه بسياسة "النفس الطويل"، وتنظيم الجهد.

والسؤال: هل من ضمان لنجاحها؟

يمكن أن يتوفر هذا الضمان لو كان للثورة، على مدى الخبرة الإنسانية، وصفة ثابتة، ولكن للأسف لم تتوفر بعد مثل هذه الوصفة.

فلماذا المضي إلى طريق لا ضمان على نجاحه مسبقا؟

لأن هذا ضروري للغاية، فأوضاع السودان المعقدة اقتصاديا وثقافيا وسياسيا واجتماعيا، ولن تلوح إمكانية مغالبتها إلا بإجراءات جريئة وعاجلة لوضع العلاقات المدنية العسكرية في السودان على مسار جديد، ولن يحدث هذا إلا بكسر زخم الانقلاب.

* * *

العنوان الأبرز من ليبيا، مفجع، ولكنه كاشف: السلطة تُطلب من تل أبيب.

قبل نحو أسبوع نشرت صحيفة "هآرتس" العبرية، أن صدّام، نجل خليفة حفتر، وصل إلى مطار "بن غوريون"، شرق تل أبيب، قادما من دبي، وذلك على متن طائرة خاصة يملكها حفتر. وأوضحت الصحيفة أن صدّام جاء بحثا عن مساعدة عسكرية ودبلوماسية من "إسرائيل"، ونقل وعدا عن أبيه أنه في حال نجح في الانتخابات الرئاسية، المزمع إجراؤها في 24 كانون الأول/ ديسمبر، فسيقيم علاقات دبلوماسية مع تل أبيب. كما أكدت الصحيفة العبرية أن حفتر يتلقى مساعدة من شركات علاقات عامة ومستشارين استراتيجيين من فرنسا والإمارات العربية المتحدة، كما يعمل موظفون يمثلون عائلة حفتر في شركة مسجلة في الإمارات.

المعنى نفسه أكدته صحيفة "التايمز" اللندنية، في عنوان "شيّق": "أمير الحرب الليبي خليفة حفتر قد يعترف بإسرائيل كي تدعمه في الانتخابات". وأشار مراسلها في الشرق الأوسط، ريتشارد سبنسر، إلى أنه "كان يُنظر إلى حفتر لفترة طويلة على أنه المرشح الأقرب للفوز، إلا أن عبد الحميد دبيبة، رئيس الوزراء المؤقت، استطاع من خلال استخدام ثروته الشخصية والصلات السياسية التي أقامها منذ تعيينه هذا العام، ضمان منصب قيادي لنفسه، في حال كانت قواعد الانتخابات المعقدة ستسمح له بالترشح".

لكن أهم ما لاحظه سبنسر، أن حفتر اعتمد خلال الصراع المسلح على الدعم الخارجي من الإمارات وروسيا وإلى حد ما فرنسا.. لكنه (حفتر) أساء، بأدائه السيئ، إلى الرئيس الروسي، وجعلته انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتُكبت خلال فترة حكمه في شرق ليبيا حليفا صعبا للرئيس الفرنسي، ولهذا لم يعد له من حلفاء (صرحاء) إلا إسرائيل والإمارات، وهو مرشحهما المثالي.

* * *

العنوان الإثيوبي كان خليجيا، وسعوديا بامتياز، فقد دعت السعودية أطراف الصراع في إثيوبيا إلى حوار سياسي، ولأنه من النادر أن تكون السعودية على هذا القدر من العلانية والمباشرة، والتعبير عن "مصالحها" بهذا الشكل، فقد تكون هذه الدعوة تعبيرا عن قلق سعودي جدي، الأهم أن هذا الإعلان كان مناسبة كي يتذكر الكثير من المعلقين حجم المساعدات التي قدمتها الدول الخليجية لإثيوبيا، وخاصة في ذروة حديث مصر عن الخطر "الوجودي" لسد النهضة على حياة المصريين، ولهذا جرت استعادة تغريدات آبي أحمد، رئيس الوزراء الإِثيوبي، في كانون الأول/ ديسمبر 2019، والتي أعلن فيها عن بالغ شكره لكل من السعودية والإمارات لدعمهما إثيوبيا.

حين جرى تذكر المساعدات الخليجية لإثيوبيا بدت هائلة، ففي الفترة من 2000 إلى 2017 قُدمت لإثيوبيا استثمارات خليجية بقيمة 13 مليار دولار أمريكي، وذلك من خلال 434 مشروعاً، كانت الاستثمارات السعودية في 233 مشروعا، تلتها الإمارات بـ104 مشروعات، بينما كان نصيب قطر 12 مشروعاً، والكويت 16 مشروعاً.

* * *

كيف يمكن فهم موقف مصر الرسمية، من كل هذا؟

للوهلة الأولى، قد يظن المتابع للموقف المصري من كل هذا أن هناك خطأ عظيما ورئيسا في الوقائع الجغرافية البحتة، كأن مصر تقع على الطرف البعيد من أوقيانوسيا، وليس في قلب هذا المعترك المشتعل.

أما الوهلة الثانية فستكون الظن بخطأ زمني.

في الثالثة سيتدارك المتابع، ويصحح: مصر لا تقع بالقرب من المنطقة الجغرافية التي تشمل: أستراليا وميلانيزيا وميكرونيزيا وبولنيزيا، بل في الطرف الشمالي الشرقي لقارة إفريقيا، ولها امتداد آسيوي، وعلى حدودها تقع ثلاث دول فقط: فلسطين المحتلة شرقا، وليبيا غربا، والسودان جنوبا، ولا حياة لها إلا بتدفق مياه نهر النيل، الذي يمكن لإثيوبيا أن تنجح في التحكم فيه، وأننا في تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، حيث تحاول "إسرائيل" أن ترسم خرائط جديدة للمنطقة.

في الرابعة سترد خاطرة مخجلة، لصدى صدِئ: "وأنا صغير كان فيه ناس كبار يضربوني" (ابتسامة): "فأقول لهم بكرة أكبر وأضربكم" (تصفيق رتيب).

ويكبر السؤال، وليس الصدى الصدِئ، والبحث عن الإجابة ممتد.