تمتلك
تركيا إرثاً طويلاً من استقبال
اللاجئين والفارين من الحروب والظروف القاهرة، بدءاً من استضافة الدولة العثمانية لمهجَّري الأندلس، ومروراً بمواطني البلقان في تسعينيات القرن الماضي والعراقيين خلال حرب الخليج (1991) وغزو العراق (2003)، وانتهاءً بالسوريين منذ عام 2011، لكن الأخيرين شكلوا استثناءً.
ففي مقابل الاحتفاء التام بكل السابقين، والذين حاز معظمهم (وخصوصاً الأسبق منهم) على جنسية تركيا وباتوا جزءاً من نسيجها المجتمعي، ظل السوريون على مدى الأعوام الثمانية السابقة مادة للجدل والمناكفات. ذلك أن عدداً يتخطى ثلاثة ملايين منهم لجأوا للأراضي التركية في فترة زمنية قصيرة نسبياً، فضلاً عن الخلاف الكبير في وجهات النظر من الثورة السورية بين العدالة والتنمية والمعارضة، وخصوصاً حزب الشعب الجمهوري.
يتبنى الأخير موقفاً أقرب للنظام السوري من المعارضة، ولذلك فهو ينظر لاستقبال السوريين على أنه موقف حكومي موال للمعارضة ومعاد للنظام، ما جعل هذا الاستقبال عرضة لانتقاداته ورفضه. ولذلك، لطالما حضر السوريون في حملاته الانتخابية، حيث تعهد زعيمه كمال كليتشدار أوغلو أكثر من مرة بإعادتهم إلى بلدهم حال فوز حزبه، وإن كان فسَّر ذلك دائماً بأنه رجوع/ إرجاع لا إكراه فيه، بل سيخضع أولاً لتهيئة الظروف وسيتم بالتدريج.
المقاربة الرئيسة للحزب تحيل إلى الأوضاع الاقتصادية في البلاد، معتبرة الأموال التي صرفت وتصرف على السوريين في تركيا، وتقدرها الحكومة بأكثر من 30 مليار دولار حتى الآن، هي في الأصل من حق الأتراك الذين حُرموا منها. كما أن الحزب اتهم الحكومة في كل مناسبة انتخابية تقريباً؛ بتجنيس أعداد كبيرة
من السوريين لكسب
أصواتهم في الانتخابات، فضلاً عن اتهامات بإشراك سوريين غير مجنسين كذلك في
الانتخابات لتزويرها، وهو الأمر الذي نفته اللجنة العليا للانتخابات وفندته مراراً.
تعرض الوجود السوري في تركيا لعدة حملات تشويه وتحريض ترتكز على الاختلافات في الثقافة والعادات والتقاليد، وبعض المظاهر السلبية والتصرفات الخاطئة لبعض الشباب السوري والعربي
هذا على المستوى السياسي والحزبي، أما على المستوى الشعبي والاجتماعي الموازي، فقد تعرض الوجود السوري في تركيا لعدة حملات تشويه وتحريض ترتكز على الاختلافات في الثقافة والعادات والتقاليد، وبعض المظاهر السلبية والتصرفات الخاطئة لبعض الشباب السوري والعربي، وفرص العمل التي حظي بها السوريون على حساب الأتراك، من وجهة نظرهم، وما يعتبرونه قتالاً للجيش التركي في
سوريا دفاعاً عن السوريين المقيمين في تركيا، مضافاً لذلك الكثير من المبالغات والإشاعات غير الدقيقة، وهو ما أدى لعدة احتكاكات وأحياناً حملات على وسائل التواصل الاجتماعي للمطالبة برحيلهم/ ترحيلهم.
في تموز/ يوليو 2017، وفي ظل حملة تحريض ضد الوجود السوري في تركيا على وسائل التواصل، هزت جريمة قتل سيدة سورية حامل مع طفلها الرضيع؛ تركيا، فتدخلت الحكومة سريعاً لوقف الحملة وإيقاف بعض الأشخاص المحرضين، ثم وضحت للرأي العام بالأرقام كيف أن معدل الجريمة بين السوريين أو من السوريين تجاه الأتراك كان أقل منه بين الأتراك أنفسهم.
وعليه، كان السوريون دائماً مادة جدل حاضرة في أيِّ وكلِّ حملة انتخابية، حيث يركز الشعب الجمهوري وبعض أحزاب المعارضة على ضرورة إعادتهم لسوريا، بينما يؤكد العدالة والتنمية وبعض الأحزاب الأخرى على خطاب "المهاجرين والأنصار" والواجب الأخلاقي تجاههم. ولا يبدو أن الانتخابات البلدية المقبلة ستكون استثناء لذلك، ولكن مع تطور سلبي هذه المرة.
مجدداً، يجد السوريون أنفسهم مادة متداولة في السجال الانتخابي الساخن قبيل الانتخابات البلدية والمحلية التي ستجرى نهاية الشهر الجاري، لكن هذه المرة على نطاق أوسع وفي سياق مختلف وأكثر تعقيداً. تشهد مدن الجنوب التركي القريبة من الحدود السورية تحديداً؛ حالة من التجييش من قبل المعارضة ضد السوريين، باعتبار أعدادهم الكبيرة في تلك المناطق، لكن الجدل الأبرز كان في إسطنبول التي تضم أكثر من 800 ألف سوري، وفق إحدى الإحصائيات.
يجد السوريون أنفسهم مادة متداولة في السجال الانتخابي الساخن قبيل الانتخابات البلدية والمحلية التي ستجرى نهاية الشهر الجاري، لكن هذه المرة على نطاق أوسع وفي سياق مختلف وأكثر تعقيداً
إيلاي أكسوي،
مرشحة الحزب الجيد في حي الفاتح في إسطنبول، والذي يؤوي عدداً كبيراً من السوريين، تجاوزت الخطوط المعهودة، معلقة لافتة انتخابية لها تقول: "لن أسلم الفاتح للسوريين"، وهي اللافتة التي أحدثت جدلاً واسعاً بين من يحذر من دلالاتها
العنصرية ومن يرى أنها تعبر عن امتعاض من كثرة عددهم في الحي.
حتى الآن يبدو الأمر عادياً، فالحزب الجيد حليف الشعب الجمهوري في الانتخابات ومن المتوقع أن يشاركه هذا النوع من الخطاب، خصوصاً وأنه حزب قومي محسوب على اليمين المتشدد، كحزب الحركة القومية الذي انشق عنه. بيد أن الحملة الانتخابية شهدت تطوراً غير متوقع حين دخل العدالة والتنمية نفس الدائرة، وإن بشكل مختلف.
ذلك أن عدم تعافي تركيا تماماً من الأزمة المالية التي أصابتها صيف العام الفائت، بما في ذلك نسبة البطالة والمصاعب التي تواجه التجار والعمال من جهة، وصعوبة المعركة الانتخابية في إسطنبول خصوصاً، وتركيا عموماً من جهة أخرى. يبدو أنهما استدرجا مرشح العدالة والتنمية لبلدية إسطنبول الكبرى، رئيس البرلمان السابق بن علي يلدرم، لساحة المزايدات الانتخابية ومحاولة إرضاء الناخب التركي/ الإسطنبولي بأي ثمن. فبعد أيام فقط من تكرار وزير الداخلية سليمان صويلو طمأنة المواطنين حول نسبة الجرائم بين السوريين أو منهم، وحول عدد من حصلوا على الجنسية التركية منهم (76 ألفاً)، خرج يلدرم بتصريح في الاتجاه المعاكس.
لا يشارك يلدرم أو العدالةُ والتنمية المعارضةَ خطابَها المحرض على السوريين بالتأكيد، لكن يبدو وكأنه يدخل حلبة المنافسة على رأي الناخب ورضاه من زاوية السوريين
أكد يلدرم على أن وجود السوريين في تركيا مؤقت، وأن الحكومة تعمل على
عودتهم/ إعادتهم لبلادهم بعد تهيئة الظروف لذلك، لكنه أضاف ما معناه أن الحكومة لن تتسامح أبداً مع أي جرائم أو جنح يتورطون بها أو تهديدهم لأمن سكان إسطنبول وممتلكاتهم، وأن من يتورط في شيء من ذلك فـ"سنمسكه من أذنه ونرسله إلى حيث أتى".
هنا، لا يشارك يلدرم أو العدالةُ والتنمية المعارضةَ خطابَها المحرض على السوريين بالتأكيد، لكن يبدو وكأنه يدخل حلبة المنافسة على رأي الناخب ورضاه من زاوية السوريين وفي إطار أمني يتعلق بالتجاوزات والتهديدات، وهنا مكمن الخطر.
ذلك أن العدالة والتنمية قد اقتحم الآن ما حاول تفاديه كل السنوات الماضية، أي أن يكون السوريون مادة جدل انتخابي ومن زاوية أمنية و/أو اقتصادية، في حملة تعرف عادة بسخونتها، وفي انتخابات يجمع الكثيرون على أنها أهم في دلالاتها وارتدادات نتائجها من مجرد انتخابات محلية، ومع تنامي المشاعر القومية والخطاب اليميني شيئاً فشيئاً في البلاد.
هذا الأمر يفرض على السوريين حذراً بخصوص كيفية تعاملهم مع الانتخابات المقبلة والحملة الانتخابية القائمة حالياً، ويتطلب من الحكومة التركية جهوداً إضافية بعد الانتخابات لرفع مستوى الوعي بالوجود السوري، في إطار طبيعي يمكن أن يجنب البلاد احتكاكات سلبية أو تطورات غير مرغوبة بين الأتراك والسوريين، كما حصل قبل أيام في أحد أحياء إسطنبول، حين تحول شجار بسيط إلى عملية احتجاج واسعة تخللها تكسير لبعض المحال السورية في المنطقة.
إن هذا التركيز على الوجود السوري في انتخابات يفترض أنها بلدية/ محلية ينقل الموضوع من مساحة الاجتماعي والثقافي إلى مساحة السياسي والأمني، وهو أمر له مخاطره المحتملة التي تحتاج ليقظة وحكمة وحسن إدارة.