بعد طول انتظار وترقب، أعلنت ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، مساء الخميس الماضي، تدشين الآلية المالية الأوروبية لمواصلة التجارة مع إيران، عرفت بـ "آلية دعم المبادات التجارية" أو "إنستكس" (INSTEX). ووزعت الدول الثلاث الوظائف والمسؤوليات على الآلية بينها، إذ تستضيفها باريس، وترأسها ألمانيا من خلال رئيس مجلس الإدارة السابق لمصر "كورس بنك" الألماني بيير فيشر، وتشرف بريطانيا على هيئة الرقابة في الآلية.
تأخرت أوروبا كثيرا في إنشاء هذه القناة المالية، حيث أنها تأتي بعد 9 أشهر على الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي في أيار (مايو) 2018، وكان يفترض أن يتم ذلك بالتزامن مع المرحلة الثانية من العقوبات الأمريكية "الشاملة"، والتي دخلت حيز التنفيذ في الخامس من تشرين ثاني (نوفمبر) 2018، لتسهيل التعاملات التجارية والمالية مع إيران في ظل تلك العقوبات.
نظام مالي دون المستوى
أما النظام المالي الجديد الذي دشنته الترويكا الأوروبية بعد كل هذا التأخير "المقصود"، لا يرتقي إلى المستوى المطلوب الذي كانت تنتظره إيران للالتفاف على العقوبات الأمريكية، وترحيبها بالخطوة الأوروبية، كان على أساس أنها "الأولى"، ينبغي أن تعقبها خطوات عملية أخرى، وليس لأن الآلية تمثل كل المنتظر المطلوب.
إقرأ أيضا: إيران ترحب بآلية أوروبا وواشنطن تقلل من تأثيرها على العقوبات
وفي الحقيقة أن هذا النظام هو النسخة الثالثة للآلية المالية التي وعد الأوروبيون منذ أشهر بإنشائها، وهو بمثابة تراجع واضح عن النسختين الأولى والثانية، اللتين كانتا الأفضل من الثالثة، فكان من المقرر في البداية أن يتم إنشاء نظام سويفت أوروبي، يشبه نظام سويفت العالمي الأمريكي تقريبا، إلا أن أوروبا تراجعت عن ذلك في وقت لاحق، وأصبحت تتحدث لأشهر عن آلية أخرى، عرفت بـ ""SPV (Special Purpose Vehicle)، كانت تشبه نظام مقايضة تتيح للشركات الأوروبية وغيرها من أنحاء العالم الاستمرار في المبادلات التجارية مع إيران.
وفي نهاية المطاف استقر الأمر على نظام "إنستكس" (INSTEX) الجديد، وهو نظام، غير معروفة بعد طبيعة عمله، وأن تفاصيل عمل الآلية ستخضع لمزيد من النقاش والمباحثات، بحسب البيان التأسيسي الصادر عن وزراء خارجية الترويكا الأوروبي (ألمانيا، وفرنسا وبريطانيا).
كما أن الآلية الجديدة لا تغطي السلع التي شملها الحظر الأمريكي، وإنما بحسب البيان المذكور، تغطي السلع الأكثر ضرورية، أي الأدوية، والسلع الطبية، والزراعية، والغذائية، التي لم ترد في قائمة العقوبات الأمريكية أصلا، وأعطت الترويكا وعدا مؤجلا بشأن إدراج السلع المشمولة بالعقوبات على جدول أعمال الآلية في المستقبل.
إقرأ أيضا: 3 دول أوروبية تؤسس قناة للمعاملات التجارية مع إيران
كذلك أن نطاق عمل "آلية دعم المبادلات التجارية" مع إيران، أصبح محدودا بالترويكا الأوروبية، أقله في مرحلتها الأولى، دون غيرها في أوروبا وخارجها، أي أن الآلية ليست مدعومة من الاتحاد الأوروبي، وإنما من ثلاث دول أوروبية فحسب، هي ألمانيا وفرنسا وبريطانيا. كذلك يعطي البيان التأسيسي للآلية "وعدا مؤجلا آخر" لتوسيع نطاق عمل القناة على المدى البعيد، ليشمل دولا أخرى ترغب بالعمل التجاري مع إيران.
ثم أن تأكيد البيان على أن تطبيق الآلية المالية، سيكون خطوة بخطوة، يوحي بأن الترويكا الأوروبية تبحث وراء كل خطوة عن ثمن تدفعه طهران، ما يجعل تلك الخطوات "مفخخة". وعلى الأغلب الثمن المطلوب، هو من نفوذ إيران الإقليمي وبرنامجها الصاروخي، الذي رفضت طهران على لسان أكثر من مسؤول لها في الأيام الماضية، مجرد التفاوض والنقاش بشأنه، ناهيكم بدفع الثمن منه.
ثم أن الترويكا الأوروبية ربطت بين عمل آلية إنستكس وانضمام إيران إلى مجموعة العمل المالي الدولي "فاتف" (FATF)، الذي أصبح محل خلاف بين القوى السياسية ومؤسسات الحكم في إيران، وبانتظار قرار نهائي لمجمع تشخيص مصلحة النظام حول مشروعي قانونين متبقيين (الإتفاقية الدولية لمكافحة تمويل الإرهاب CFT والإتفاقية الدولية مكافحة الجرائم العابرة للحدود "باليرمو")، للفصل بين مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) ومجلس صيانة الدستور في خلافهما حول المشروعين، حيث الأول صادق عليهما، بينما الثاني رفضهما.
آلية معطلة
وذلك يعني أن الآلية المالية لن تعمل إلا بعد انضمام إيران إلى هذه المجموعة الدولية، وهو غير واضح بعد في ظل وجود رفض واسع لبعض مؤسسات الحكم في إيران لانخراط البلاد فيها، بالتالي فإن دعوة الترويكا الأوروبية إلى الانضمام "فورا" إلى فاتف، يمكن اعتبارها محاولة إلى تسخين الخلافات السياسية في إيران بهذا الشأن.
أما السؤال الملح الآن أنه لماذا أقدمت الترويكا الأوروبية على هذا الإجراء؟ مادام هو غير مجدي كثيرا بالنسبة لإيران، ولا يلبي حاجاتها، ولا يقدم ولا يؤخر شيئا. الإجابة أن الأوروبيين يحاولون من خلال هذه الخطوة "الجزئية" أن يبعثوا برسالة إلى طهران بأنهم جادون في الحفاظ على الاتفاق النووي، وذلك بغية ثني طهران عن قيام بشيء ينتهي إلى انهيار الاتفاق النووي، بعد أن صعدت في انتقاداتها للأوروبيين، في الآونة الأخيرة، وخاصة بعد عقوبات أوروبية على كيانات وشركات إيرانية خلال الشهر الماضي، هي الأولى من نوعها بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي. وصلت تلك الانتقادات أحيانا إلى درجة توجيه إتهامات للأوروبيين بالمسايرة "الكاملة" للولايات المتحدة الأمريكية، ولعب دور "الشرطي الجيد"، المكمل لدور "الشرطي الأمريكي السيء".
كما أن ما أقلق الأوروبيين أيضا هي عودة طهران إلى التلويح بخيار الانسحاب من الاتفاق النووي في مواجهة المماطلة الأوروبية، وسط أنباء تحدثت عن أن السلطات الإيرانية تتجه نحو اتخاذ إجراءات دون مستوى خرق الاتفاق النووي، كردة فعل أولية تجاه عدم التزام الشركاء الباقين في الاتفاق بتعهداتهم، مثل تقليل محسوب لمستوى التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وإنهاء بعض إجراءات، قبلت بها طهران "طواعية" بموجب الاتفاق النووي من منطلق إبداء حسن النوايا.
إقرأ أيضا: أوروبا ترفض عزل إيران اقتصاديا وتفعّل قانون عرقلة العقوبات
وزادت تلك المؤشرات من مخاوف أوروبا التي مازالت تنظر إلى الاتفاق النووي كأفضل خيار لمعالجة الملف النووي الإيراني، ما حدا بالترويكا إلى إنشاء آلية إنستكس كخطوة لتشجيع طهران على الالتزام بالاتفاق، وللحيلولة دون وقوع أي تغييرات قد تطرأ على السياسة الإيرانية في هذا الاتجاه، وحتى لو كانت تحت سقف إنهاء إجراءات حسن النوايا، ولم تمثل انتهاكا للاتفاق النووي.
واللافت أيضا أن الإجراء الأوروبي يأتي قبل عقد مؤتمر وارسو بأسبوعين في 13 و14 شباط (فبراير) الجاري، والذي يمثل تصعيدا أوروبيا وأمريكيا مشتركا إزاء إيران، مما يعني أن الترويكا الأوروبية تريد من الآن احتواء ردة الفعل الإيرانية على مشاركة شركاء الاتفاق النووي الأوروبيين في المؤتمر، وما يمكن أن يتمخض عنه، وضبط إيقاعات تداعياته من خلال تقديم "آلية دعم المبادلات التجارية".
خلاصة القول أن الآلية المالية التي أزاحت الدول الأوروبية الثلاث (ألمانيا، وفرنسا وبريطانيا) الستار عنها الخميس الماضي، تمثل خطوة أوروبية صغيرة وجزئية، لا ترتقي إلى المستوى الذي تريده طهران، إن لم تكن في حكم "اللاشيء"، وهي قد ترجئ رد إيران على "التقاعس الأوروبي" عن تنفيذ الوعود والتعهدات تجاه الاتفاق النووي، بانتظار خطوات ملموسة على الأرض، تمكنها من مواصلة التجارة مع العالم.
لكن إن لم يحدث ذلك، فالمتوقع أن تذهب طهران خلال المرحلة المقبلة باتجاه إعادة النظر في الاتفاق النووي، من خلال القيام بإجراءات، لا تمثل خرقا للاتفاق في المرحلة الأولى، للضغط على الأوروبيين، وصولا إلى الانسحاب منه، وهو الخيار الأخير، ليس واردا أن تلجأ إليه طهران في الوقت الحاضر، إلا إذا شعرت بأن مصالحها السياسية من الاتفاق النووي بات أيضا صفرية إلى جانب مكاسبها الاقتصادية. لكن مادامت تلك المصالح السياسية قائمة، فلا يتوقع أن ترتقي إجراءات طهران الضاغطة على الأوروبيين إلى مستوى الانسحاب من الصفقة النووية.
وفي الختام يمكن القول إن الاتحاد الأوروبي يلعب لعبة مكشوفة اليوم، فهو من جهة لا يريد انهيار الاتفاق النووي، ويريد بقاء طهران فيه، لكنه من جهة أخرى، يعجز أو لا يرغب في دفع الثمن الذي تطلبه إيران للحفاظ على هذا الاتفاق، لعل ما يدفع الاتحاد إلى اتباع سياسة "التردد المحسوب" هذه، هو الانتظار لتفعل العقوبات الأمريكية مفعولها، آملا أن تجرّ إيران إلى طاولة "التنازلات" بشأن الملفات ذات الاهتمام المشترك أوروبيا وأمريكيا.
إقرأ أيضا: هذا ما دفع دولا أوروبية لتأسيس قناة مدفوعات للتجارة مع إيران
الأحزاب العراقية... قراءة في الاستراتيجيات: تيار الفتح (4)
مؤشرات إقرار مجلس النواب الأمريكي لقانون قيصر
المنتصرون الحقيقيون في العراق!