قضايا وآراء

مستقبل إدلب يرسم علاقات تركيا مع الرّوس والأمريكان

1300x600
حذّر الرّئيس التّركي رجب طيب أردوغان في اتّصال هاتفي نظيره الرّوسي بوتين من انهيار جوهر اتّفاق "أستانا"؛ إذا هاجم النّظام السّوري إدلب. لا شكّ في أن ثمّة معطيات دفعت الرّئيس التّركي أردوغان لهذا التّحذير، فما جرى في الجنوب السّوري حمل دلالات خطيرة للجانب التّركي، إذ نصح الضّباط الرّوس وفد درعا المفاوض عدم ركوب الباصات الخضراء إلى إدلب؛ لأنّ دبابات النّظام والطّائرات الرّوسيّة ستتوجه قريباً لإدلب .

ولا تأتي المخاوف التّركية مما رشح من "نصائح" الضّباط الرّوس لأهالي درعا، فقد يندرج هذا الكلام ضمن "حرب الدّعاية النّفسيّة"، إنّما الخوف الحقيقي من أبعاد الاتّفاق الأمريكي الرّوسي الأردني الإسرائيلي على تسليم الجنوب السّوري للنظام. فأبعاد هذا الاتّفاق لن تنتهيَ عند الجنوب السّوري، إذ له تبعات تتجاوز الجنوب السّوري، حيث تدور اللعبة في سوريا الآن حول نقطة الحفاظ على المصالح الرّوسيّة في سوريا مقابل حفظ أمن إسرائيل. وعبّر الرئيس الأمريكي عن ذلك بوضوح عقب قمّة هلسنكي بقوله: "نعمل من أجل أمن إسرائيل، وأنا وبوتين متفقان على تحقيق ذلك"، أي لا بأس أن يبقى الأسد حاكماً لسوريا، ما دام أميناً في حماية الحدود مع إسرائيل، مطيعاً للروس، خاضعاً لإملاءاتهم.

ولا شكّ في أنّ تطوّر العلاقات الأمريكيّة الروسيّة في عهد ترامب الذي يخشى مستشاروه تقارباً كبيراً مع الرّوس؛ قد يطلق يد بوتين في سوريا؛ بوتين الذي لا يرى حرجاً في خرق الاتفاقات ونقض العهود، وربّما هذا ما دفع وزير الخارجيّة التّركي للقول إنّ بلاده ستحمي إدلب من الخطر، "حتى إن لزم الأمر سنحميها عسكرياً".

فهل تموت "أستانا" بعدما حقّقت للروس أهدافهم باتفاق ضمني روسي أمريكي هذه المرّة، وتعود المواجهة العسكريّة الروسيّة التّركيّة على الجغرافيّا السّوريّة (إدلب) بمباركة إسرائيليّة وموافقة أمريكيّة؟!

تفرض مجريات الأحداث الميدانيّة هذا السّيناريو بقوّة، لكنّ حجم المصالح بين البلدين يجعله مستبعداً. فما تجنيه روسيّا من تركيّا يفوق ما سوف تستثمره في سوريا اقتصادياً، كما يصعب على الناتو والولايات المتحدة الابتعاد أكثر عن تركيا. فتحقّق هذا السّيناريو قد يؤدي لانسحاب تركيا من الناتو، بل قد يدفع تركيّا لتحالف استراتيجي مع إيران، وهذا ما تخشاه الولايات المتّحدة والرّوس معاً؛ لأنّ الرّوس ملزمون بموجب اتّفاقاتهم مع الولايات المتّحدة وإسرائيل بإخراج إيران، التي ستمانع ذلك، وإن أعلن مستشار خامنئي استعداد بلاده إخراج المستشارين الإيرانيين إذا طلبت الحكومة السّوريّة ذلك.

نجحت السّياسة التّركيّة حتّى الآن في تجاوز الضّغوط والمطبّات المرسومة لها، وقرأت جيداً مواقف حلفاء وأعداء الثّورة السّوريّة، واستشرفت مواقف الدّول، ما ساعدها على النّجاح في سياسة "مكاسب الحد الأدنى" ضمن واقع سياسي معقّد يصعب فيه أخذ بيض السّلة كاملاً، ولا سيّما أنّ الحليف الأمريكي خذلها مراراً. فدخلت تركيا في اتّفاق أستانا (خفض التّصعيد) مع الرّوس والإيرانيين من جهة، ودخلت مع الحلفاء الأمريكان في ماراثون مفاوضات حول الكرد من جهة ثانية. وفي موازاة الخطّين السّياسيّين، عملت على رسم واقع عسكري على الأرض، فشنّت عمليّتين عسكريّتين كبيرتين (درع الفرات، غصن الزّيتون) حفظت بهما أمنها القومي من تهديد "الانفصاليّين" الأكراد، وفق الرواية التّركية، كما جعلت العمليّتان منها رقماً عسكريّاً في معادلة الحلّ المستقبلي، وأصبح لها الدّالة على معظم الفصائل العسكريّة شمالاً، بل أصبح لها الكلمة الفصل في الشّمال السّوري كلّه، فدعمت المجالس المحلية والهيئات المدنيّة، باتت أمام مسؤوليّة سياسيّة وأخلاقيّة تجاه الشّعب السّوري عموماً والمعارضة خصوصاً.

يدرك الرّوس والأمريكان جيداً صعوبة قبول الأتراك بالخروج بخفي حنين بعد كل هذا الاستثمار. وعليه، فإنّ بوتين وترامب سيمارسان مزيداً من الضغط النّاعم على الأتراك لإجبارها على القبول برؤيتهما، مع حفظ ماء الوجه لتركيا، ليس حبّاً بها بل لحاجتهما إليها، ولامتلاك تركيا خيارات موجعة. وفي هذا السّياق، يُفهم الاتّفاق الأمريكي التّركي حول منبج، وتأكيد أردوغان وترامب خلال الاتّصال الهاتفي الذي سبق قمّة هلسنكي على أنّ تنفيذ خارطة الطريق المشتركة بخصوص مدينة منبج ستساهم بشكل كبير في إنعاش التّعاون الرّامي لحل الأزمة السّوريّة؛ الأزمة التي أخذت حيّزاً من قمة هلسنكي، وبدا فيها من خلال المؤتمر الصحفي أنّ بوتين وترامب وضعا خطوطاً عريضة للاتفاق حول قضايا كثيرة، فـ"لا أسباب موضوعية لاستمرار التوتر بين روسيا والولايات المتحدة"، كما يرى بوتين.

ولا شكّ في أنّ سوريا وأوكرانيا من الملفات المهمة، وإن أشار بوتين إلى أنّ الحلّ بأوكرانيا يقوم على اتّفاق مينسك، فإنّه لم يشر لمسار الحل السّوري الذي نرى أنّ الحلّ النّهائي فيه قد يأخذ مرحلتين؛ المرحلة الأولى تتمثّل بإعادة تموضع نقاط المراقبة التّركيّة وقوات المعارضة السّوريّة ومنح القاطنين في هذا الحيّز حكماً ذاتياً، وبموازاة ذلك تنسحب الولايات المتحدة من شمال شرق سوريا تدريجيّاً تمهيداً لعودة النّظام السّوري، وتبدأ المرحلة الثّانية التي قد تأتي بعد بضع سنوات، مع تطبيق الدّستور السّوري الجديد الذي يعد من الفرص القليلة للخروج بأقلّ الخسائر.