قضايا وآراء

عاكف.. الشهيد في سجون العسكر

1300x600
من حسن خاتمة الأستاذ محمد مهدي عاكف، أن ختم الله له بالشهادة –فيما نحسب– فقد توفي سجينا، ومصابا بالسرطان، والمبطون شهيد كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وعند ذكرنا لاسم سيد قطب، أو حسن البنا، أو غيرهما مسبوقا بالشهيد، فهو ليس تأليا على الله، بل هو دعاء للمتوفى بأن يرزقه الله عز وجل أجر الشهادة، بحكم أن المتوفى مات لأجل كلمة الحق، ومناضلا في سبيل الله ضد الظلم، وابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى، كمثل قولنا: المرحوم فلان، فهو ليس جزما منا بأنه مرحوم، بل هو دعاء له بالرحمة، وتقدير الكلام: المدعو له بالشهادة، أو المدعو له بالرحمة.

ولكل شخصية مفتاح، وأحسب أن أهم مفتاح لشخصية محمد مهدي عاكف رحمه الله، هو القوة، فالرجل كان عنوان حياته القوة، صغيرا، وشابا، ومرشدا للإخوان، وسجينا في ظل حكم الطغاة، منذ فاروق وحتى السيسي، فالقوة من حيث ثباته وإيمانه بربه، ومن حيث قوته في تحمل المسؤولية، وقويا في فطم نفسه عن المنصب، وتركه، رغم أحقيته أن يتولاه مرة أخرى، ورغم إلحاح من حوله بالاستمرار، فالقوي يترك المنصب رغم أحقيته به، والضعيف من يتمسك به رغم فشله المتلاحق، وعدم أحقيته به!

لقد تولى الأستاذ عاكف منصب مرشد الإخوان، وبعد انتهاء فترته الأولى، رفض التجديد، ورفض الترشح من الأساس، وآن الأوان أن يعرف الناس لماذا فعل عاكف ذلك، فهناك جزء معلن، وآخر غير معلن، أما المعلن فهو عدم رغبة الرجل في التكملة، وإعطاء نموذج للناس بوجود مرشد سابق للجماعة، وقد سبقه في ذلك -للأمانة التاريخية- الأستاذ خالد محيي الدين ليكون أول رئيس حزب سابق بإرادته، وهو ما قام به عن قناعة الأستاذ عاكف، فقد كان صاحب طرح قوي في الجماعة، فإن أول مرشد للإخوان يعلن ويهدد بالعصيان المدني، وهي عبارة لم ترد على لسان مرشد للإخوان، ولا رمز من رموزها، فقد كانت الحسابات السياسية تجعل الإخوان وغيرهم يبتعد عن هذه اللهجة.

أما السبب الآخر الذي جعل عاكف يرفض أن يكمل في منصب المرشد، وهو أن الرجل شعر بأنه يريد أن يقفز بالإخوان ويتقدم بهم في مسيرتهم الدعوية والسياسية، ولكن هناك من يعرقله من الخلف، وهو ما قاله لبعض الإخوان: يا بني أنا أريد أن أجري بالإخوان، ولكن إخوانك يكبلونني، ويجذبونني للخلف.

وقد لاحظ ذلك عاكف، منذ مخالفة أغلبية مكتب الإرشاد له في توجهه لقرار ضم الدكتور عصام العريان لمكتب الإرشاد، وهو أحق بها بلا خلاف، وهو ما يفسر للكثيرين اختلاف شخصية العريان منذ هذه الفترة وفيما بعد، وبعد حرمانه كذلك من رئاسة حزب الحرية والعدالة، وتفاصيل مهمة لمن يريد أن يراجع هذه المرحلة، فقد كان عاكف يرى أن العريان قوة مهمة وضاربة للجماعة، وهو شعور أحسه كذلك من قبل الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله، فقد شعر أن خطه الفكري العام الهادئ المحبوب للناس، يوجد في التنظيم من يمتلك مفاتيح يخالفه بل يحجمه، وهو نفس ما شعر به عاكف ووصل حد اليقين عنده، بتفاصيل ليس مجالها الآن.

أما قوة إيمانه بربه، وحبه لدعوته، فشهدت ذلك منه في موقفه من ترشح الإخوان للرئاسة، وهو موقف جدير بالتأمل والدراسة، فغداة إعلان الإخوان ترشيح المهندس خيرت الشاطر للرئاسة، كنت أزور شيخنا القرضاوي، وطلب مني الاتصال بالأستاذ عاكف، فاتصلت عليه من هاتفي ولم يرد، وبعد مغادرتي بيت الشيخ، اتصل الأستاذ عاكف، فكان كلامه معي كالتالي: يا ابني أبلغ الشيخ أني ضد هذه الطريقة المعيبة التي تمت بها الشورى للترشح، اسمع يا ابني: (كل ده رايح، وتبقى الدعوة)، ولم أفهم معنى ما قاله الرجل، والذي قالها بفراسة المؤمن الذي يرى بنور الله، وخبرته في الحياة، ولكن الأيام والأحداث أثبتته.

رحم الله الأستاذ عاكف، وكتبه في سجل الشهداء، والذي كانت آخر كلماته التي قالها لابنته: أنا مش خايف من الموت، أنا خايف على مصر، لتكون معبرة عن قوة حب الرجل لوطنه، ودينه، وأمته.