كتاب عربي 21

إستراتيجية أمريكية هشة في أفغانستان

1300x600
في سياق التغطية على هشاشة الإستراتيجية الأمريكية في أفغانستان وفشلها في تحقيق تقدم حاسم على حركة طالبان، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن تبني "إستراتيجية جديدة"، لكن نظرة خاطفة على  الخطوط الرئيسية في إستراتيجية ترامب المعلنة تكشف أن لا جديد تنطوي عليه الخطة، فهي لا تخرج عن إستراتيجية أوباما الذي تراجع عن سحب القوات الأمريكية من أفغانستان وطالب بزيادة عدد القوات، الأمر الذي يؤكد على محدودية دور مؤسسة الرئاسة في المسائل الإستراتيجية وهيمنة منظورات المؤسسة العسكرية العابرة للرؤساء، وبهذا يبدو أن ترامب يسير على خطى أوباما، بينما الجميع يتبع أجهزة الإمبراطورية الصلبة.

يعتبر النزاع في أفغانستان الأطول في تاريخ الولايات المتحدة، إذ تخوض قوات حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة حربا ضد حركة طالبان وحلفائها منذ نهاية عام 2001 بعد إطاحة نظام طالبان من السلطة عقب رفضها تسليم زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن عقب هجمات 11 أيلول/سبتمبر على الولايات المتحدة، وعلى الرغم من التزام أوباما بسحب القوات الأمريكية عام 2014 إلا أن تصاعد وتمدد طالبان حمل الولايات المتحدة على التراجع، حيث ينتشر نحو 8400 جندي أمريكي في أفغانستان و5000 من جنود الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، وقد فشلت جميع المحاولات بالتوصل إلى تسوية بين كابول وطالبان.

كان الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما قد تراجع عن قرار سحب القوات من أفغانستان بناء على توصيات وزارة الدفاع، الأمر الذي تكرر مع الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب حيث تخلى عن وعد انتخابي أخر كان قد أطلقه خلال حملته الانتخابية، بخصوص انسحاب قوات الولايات المتحدة من أفغانستان، وقال دونالد ترامب في خطاب ألقاه من قاعدة فورت ماير قرب واشنطن في 21 آب/ أغسطس 2017  إن موقفه الجديد يهدف إلى الحيلولة دون تحول أفغانستان إلى ملاذ آمن للمتشددين الإسلاميين المصممين على مهاجمة الولايات المتحدة.

يؤكد ترامب على أن محدودية دوره في الشأن الاستراتيجي، ويكشف عن قوة نفوذ المؤسسة العسكرية، فقد قال في كلمته إن "الحدس يدفعني للانسحاب"، مضيفا أن مستشاريه للأمن القومي أقنعوه بتعزيز القدرة الأمريكية لمنع حركة "طالبان" من الإطاحة بالحكومة التي تدعمها الولايات المتحدة في كابل، وقد كرر في كلمته خطابات سلفه أوباما حيث حذر ترامب الحكومة الأفغانية من أن الدعم الأمريكي الذي سيتواصل في مواجهة عناصر حركة طالبان على الأرض لن يكون "شيكا على بياض"، مطالبا الحكومة الأفغانية بإصلاحات ونتائج حقيقية، وترك الباب مفتوحا على إمكان إجراء حوار مع بعض عناصر حركة طالبان، وقال "في وقت من الأوقات، وبعد جهد عسكري ناجح، ربما يصبح الحل السياسي ممكنا ليشمل جزءا من طالبان أفغانستان"، وتابع "لكن أحدا لا يمكنه أن يعلم ما إذا كان هذا سيحصل ومتى".

أحدى المسائل التي باتت مألوفة في نهج ترامب والتي يختلف فيها عن سلفه أوباما هي ممارسة الضغوط والتهديدات والابتزازات على الدول الحليفة للولايات المتحدة، فقد مارس هوايته بالضغط على باكستان التي تعتبر أهم حلفاء واشنطن في ملف أفغانستان، فقد عرض ترامب نهجا أكثر تشددا للسياسة الأمريكية تجاه باكستان، وقال بأن باكستان "ستخسر كثيرا" إذا استمرت في إيواء "إرهابيين"، وزعزعة أمن أفغانستان المجاورة، مشددا على أن هذا الوضع يجب أن يتغير "فورا".

يمكن القول أن الجديد في إستراتيجية ترامب هو ممارسة الضغط على الحلفاء لتحمل مزيد من الأعباء، فقد شدد خلال كلمته على ضرورة أن تعمل أفغانستان وباكستان والهند وحلف شمال الأطلسي على زيادة الالتزام بإنهاء الصراع المستمر منذ 16 عاما، وقال "لا يمكن أن نسكت بعد الآن على ملاذات باكستان الآمنة"، ذلك أن "باكستان لديها الكثير لتكسبه من الشراكة مع جهودنا في أفغانستان، ولديها الكثير لتخسره بمواصلتها إيواء الإرهابيين"، وقد حذر كبار المسؤولين الأمريكيين من أنه قد يخفض المساعدات الأمنية لباكستان إذا لم تتعاون بشكل أكبر.

يبدو أن لا جديد في الإستراتيجية الأمريكية تجاه أفغانستان سوى التصريحات البلاغية، فبحسب الجنرال جون نيكلسون قائد القوات الأمريكية والدولية في أفغانستان فإن وجود الولايات المتحدة في أفغانستان في المستقبل سيعتمد على "الأوضاع وليس على جداول زمنية افتراضية"، وقد أكد نيكلسون في بيان إن "هذه الإستراتيجية الجديدة تعنى أن طالبان لا يمكن أن تنتصر عسكريا"،  لكنه قال: "الآن حان وقت نبذ العنف والتصالح "، والوجه الآخر للبلاغة يقتضي القول أن طالبان لا يمكن أن تهزم عسكريا، فالحكمة الطالبانية تنص على أن الزمن أعظم جنرال.

في سياق الرطانة البلاغية قال وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس إنه أمر رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة بتنفيذ إستراتيجية الرئيس دونالد ترامب بشأن جنوب آسيا، بعد مراجعة دقيقة، سيناقشها مع الحلفاء في حلف شمال الأطلسي، وقال في بيان "أمرت رئيس هيئة الأركان المشتركة القيام بالاستعدادات اللازمة لتنفيذ إستراتيجية الرئيس"، وأضاف "سأجري مشاورات مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي وحلفائنا، والذين تعهد العديد منهم أيضا بزيادة عدد جنودهم".

حركة طالبان لم تخنها البلاغة في الرد على التصريحات الأمريكية المتتابعة، فقد توعدت بأن تصبح أفغانستان "مقبرة" لجنود الولايات المتحدة، وقال المتحدث باسم طالبان ذبيح الله مجاهد في بيان "إذا لم تسحب الولايات المتحدة جنودها من أفغانستان، فإن أفغانستان ستصبح قريبا مقبرة أخرى لهذه القوة العظمى في القرن الواحد والعشرين".

إلى جانب ممارسة الضغط على الحلفاء ثمة مسألة يختلف فيها ترامب عن سلفه أوباما، تقوم على إطلاق يد المؤسسة العسكرية التي تختبئ خلف قراراته، فقد وسع ترامب سلطات الجيش الأمريكي لتتمكن القوات المسلحة الأمريكية من استهداف ما يسمى "الإرهاب" من حركات وشبكات وأفراد، كما ظهر جليا في العراق وسوريا دون الاعتبار لمسائل حقوق الإنسان وقتل المدنيين، فقد قال ترامب في خطابه محذرا من أنه "لا يوجد مكان لا تصله الأيادي الأمريكية"، وقال "قواتنا ستقاتل لتنتصر". 

لا شك بأن المؤسسة العسكرية الأمريكية ترغب بشخص ترامب لأظهار القوة الأمريكية الفجة، وهي تتمتع بنفوذ واسع دون نقد حقيقي، حيث قال جون مكين عضو مجلس الشيوخ الديمقراطي ورئيس لجنة الخدمات العسكرية بالمجلس "الحقيقة المؤسفة هي أن هذه الإستراتيجية تأخرت كثيرا وفي هذه الأثناء تمكنت طالبان من تحقيق نجاحات كبيرة"، لكن النقد الخجول لخطة ترامب جاء من قبل جاك ريد عضو مجلس الشيوخ الديمقراطي البارز بلجنة الخدمات العسكرية، حيث قال: إنها ينقصها الكثير من التفاصيل.

بانتظار تكشف تفاصيل الإستراتيجية الأمريكية قالت مصادر دبلوماسية إن الأوروبيين سيبلغون وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس استعدادهم للمساعدة في تعزيز مهمة الناتو في أفغانستان لكن ذلك يتوقف على وضوح إستراتيجية أمريكا، فالأمر الوحيد المؤكد هو عزم القيادة الأمريكية إرسال ما يتراوح بين 3000 و5000 جندي إلى أفغانستان، وقد يرسل باقي أعضاء حلف شمال الأطلسي نحو 1200 جندي لكن لم تتخذ أي قرارات إلى الآن، وكان 15 عضوا وشريكا في الحلف العسكري وبينهم بريطانيا وأستراليا قد أعربوا عن استعدادهم للمساهمة بالمزيد من القوات والعتاد في المهمة التدريبية لعام 2018 وذلك بعد اجتماع مغلق لمخططين عسكريين خلال هذا الشهر.

إن الإستراتيجية الأمريكية الجديدة لا تختلف جوهريا عن القديمة وهي تهدف إلى منع طالبان من تحقيق نصر ودفعها نحو مفاوضات مع حكومة كابل، تنتهي إلى قبولها بالعملية السياسية، والتخلي عن العنف وإلقاء السلاح، وفك ارتباطها بالحركات الجهادية كتنظيم القاعدة، لكن حركة طالبان تبدو غير مهتمة بالتفاوض مع الرئيس الأفغاني وترغب بمفاوضات مع أمريكا مباشرة، فعلى مدى سنوات من المفاوضات كانت الخلافات كبيرة،  فطالبان ترفض العمل بالدستور الأفغاني الذي وضع عقب التدخل الأمريكي، وترفض العملية الديمقراطية باعتبارهما من أنظمة الكفر والردة، ولا زالت تتمسك بعودة الإمارة وتطبيق الشريعة.

ممارسة مزيد من الضغط على حركة طالبان بطرائق عديدة لدفعها للتنازل واستدخالها في صناعة الاستقرار ومتطلباته من إدماجها كحركة وطنية في جهود "حرب الإرهاب" هي إستراتيجية أمريكية ثابتة، وقد أصبحت ملحة مع انشقاق جزء من طالبان وتأسيس ولاية تتبع تنظيم الدولة الإسلامية، فعندما أعلنت الولايات المتحدة عن مقتل زعيم حركة طالبان الأفغانية، الملا أختر منصور في 21 أيار/ مايو 2016، عن طريق غارة لطائرة أميركية من دون طيار، أعرب الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عن أمله أن تؤدي عملية الاغتيال إلى إقناع حركة طالبان بالدخول في عملية السلام، وقال أوباما أن منصور "رفض جهود الحكومة الأفغانية للمشاركة بشكل جدي في محادثات سلام وإنهاء العنف"، مشيرا إلى أنه "يجب على طالبان استغلال الفرصة لانتهاج الطريق الحقيقي الوحيد لإنهاء هذا الصراع الطويل، وهو الانضمام إلى الحكومة الأفغانية في عملية مصالحة تؤدي إلى سلام واستقرار دائمين".

على خلاف التوقعات الأمريكية فإن اغتيال أختر منصور ساهم بتوحيد الحركة بصورة أفضل، حيث أعلنت حركة طالبان بالإجماع اختيار هبة الله أخوند كقائد جديد للحركة، وأضافت الحركة في بيان لها أن سراج الدين حقاني والملا يعقوب ابن زعيم طالبان الأسبق الملا عمر  عينا نائبين لآخوندزاد، الأمر الذي ضاعف من قلق واشنطن إزاء سلوك باكستان تجاه حركة طالبان وحلفائها الرئيسيين كالحزب الإسلامي بزعامة قلب الدين حكمتيار وشبكة حقاني.

جاء الإعلان الأمريكي عن الإستراتيجية الجديدة بعد التقدم السريع لحركة طالبان عقب إعلان الحركة عن بداية هجومها الربيعي السنوي، وكانت طالبان قد أطلقت على العملية اسم "عملية منصوري" تيمنا باسم زعيمها السابق الملا منصور الذي قتل في غارة نفذتها طائرة أميركية بدون طيار في أيار/مايو 2016، وتوعدت طالبان باستهداف القوات الأجنبية باستخدام أساليب مركبة من بينها "الهجمات التقليدية وحرب العصابات والهجمات الاستشهادية (الانتحارية) المتطورة، والهجمات الداخلية".

على الرغم من أن الهجوم الربيعي السنوي يشكل عادة بداية لموسم القتال، إلا أن هجمات طالبان لم تتوقف خلال الشتاء، حيث قامت بشن هجمات واسعة  كان أعنفها الهجوم على قاعدة عسكرية عند مشارف مدينة مزار الشريف في 24 نيسان/ إبريل 2017 والتي أدت إلى مقتل 135 مجندا على الأقل، الأمر الذي أدى إلى استقالة وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان، إضافة إلى إعادة هيكلة قيادة الجيش. 

يأتي الإعلان عن إستراتيجية أمريكية جديدة في أفغانستان في سياق القلق الأمريكي من تنامي قوة أكثر عنفا وأشد راديكالية من رحم حركة طالبان تتمثل بولاية خراسان التي تتبع تنظيم الدولة الإسلامية، وهي قوة غير معنية بالتفاوض وتناهض جميع الأطراف بما فيهم طالبان، الأمر الذي دفع الولايات المتحدة إلى بعث رسالة شديدة  في نيسان/ إبريل 2017 من خلال ألقاء "قنبلة العصف الهوائي الجسيم" من طراز "جي بي يو-43/بي" والمعروفة باسم "أم القنابل" على مخابئ لتنظيم الدولة الإسلامية في إقليم آشين بولاية ننغرهار شرق أفغانستان، ما أدى إلى مقتل مئة مسلح، وفقا لتقديرات غير مؤكدة أصدرها مسؤولون أفغان، بينما قال تنظيم الدولة أنه لم يخسر أي من مقاتليه.

خلاصة القول أن الإستراتيجية الأمريكية الجديدة في أفغانستان لا تعدو عن كونها استمرارية للخطط القديمة، مع مزيد من الضغط على الحلفاء، وإعطاء القيادة العسكرية صلاحيات ميدانية أوسع بالتخلي عن الحذر المتعلق بحقوق الإنسان والحفاظ على المدنيين، ومحاولة دفع طالبان للمفاوضات للقبول بتسوية، لكن الزيادة المتواضعة المقترحة لعدد الجنود الأمريكيين في أفغانستان لن تحدث فرقا جوهريا، فقد بلغ عدد القوات الأمريكية ذروته عام 2011، حيث وصل إلى مئة ألف جندي أمريكي دون تحقيق تقدم يذكر، ورغم أن نفقات وزارة الدفاع الأمريكية لوحدها بلغت في أفغانستان 840 مليار دولار حسب "مركز الدراسات الدولية والإستراتيجية"، وتقدر الكلف المنظورة وغير المنظورة بقرابة 3 تريلونات دولار، كما تسببت الحرب في أفغانستان بخسائر بشرية كبيرة ، كان نصيب قوات الولايات المتحدة  الأكبر مع سقوط 2403 جندي قتيل و20 ألف جريح منذ 2001، وهو رقم يتجاوز مرتين حجم خسائر دول التحالف هناك.