مقالات مختارة

تجاذبات السلطة.. حالة انتقالية أم تهديد بنيوي؟

1300x600
تتجاذب السلطة في رام الله العديد من الاتجاهات والتيارات السياسية، بل المحاور العربية التي باتت تفرض ضغوطا قوية على رئيسها محمود عباس لتحديد خياراته للمستقبل، سواء باختيار خليفته، أو بتحديد المسار السياسي للسلطة ذاتها ولمستقبل الصراع مع الكيان الصهيوني بل المنطقة برمتها.

التجاذبات أشعلتها العديد من المتغيرات التي يعد ملف خلافة محمود عباس ابرزها «آنيا»، غير أن هذا العامل لا يعد الأكثر تأثيرا بحد ذاته؛ فالتجاذبات ما كان لها أن تتحول إلى تهديد بنيوي للسلطة ولمجمل المشروع السياسي التقليدي المرتبط بها لولا المتغيرات الإقليمية، وحالة القصور الذاتي في الولايات المتحدة التي باتت أشبه بالمتفرج الذي ينتظر أن تحسم الأطراف الداخلية والإقليمية مواقفها، وتحدد برامجها ومشاريعها حالها كحال البرامج والمشاريع التي تصارعت في سوريا والعراق لتنتهي بتراجع النفوذ الأمريكي وتقلص تأثيره، راسمة مسارا جديد لا يستجيب للسيناريوهات التقليدية المختارة من صندوق التسوية والاستقرار الإقليمي المعتمد على مفهوم الهيمنة والسلام الأمريكي.

فالانتظار والترقب الأمريكي ليس خيارا كما يظن البعض ويشتهي، بل قصورا ذاتيا عميقا وحقيقيا وممتدا زمانيا ومكانيا، لا تجدي معه النداءات والرغبات، أمر تفاقمه الضغوط والتجاذبات، وتزيده سوءا، مبشرا بطفرات يصعب التحكم بها والتعرف على كنهها بدقة؛ فعلى أمل أن يحظى البعض بالقبول الأمريكي اجتهد في بناء نموذجه ومشروعه وعمل على الترويج له باعتباره الخيار المقبول أمريكيا، ولم يدرك بعد بأن النموذج الذي اشتقه ما هو إلا انعكاس لاستراتيجية أمريكية آخذة في التفكك والتبعثر بين قوى إقليمية ومحاور متصارعة ومتناحرة. 

فالمحاور العربية المتضاربة والمتعاكسة في الاتجاهات والمصالح جعلت من سؤال خلافة محمود عباس العنوان الرئيسي مرحليا، للتجاذب والتصارع فيما بينها؛ فالعديد من الأسماء تطرح على طاولة البحث على رأسها محمد دحلان وماجد فرج مدير المخابرات وناصر القدوة مندوب فلسطين السابق بالأمم المتحدة وغيرهم كثر في اطار هذه التجاذبات التي تحمل أبعادا محلية وإقليمية.

فكل اسم من هذه الأسماء يحمل دلالات سياسية مختلفة وأهدافا متباينة، بين ساعي لتدعيم مشروع التسوية بصيغته التقليدية ونهاياته الواعدة باستقرار وكنفدراليات ومشاريع اقتصادية وتطبيعية، وبين آخر يسعى إلى طرح مشاريع كبيرة تفوق طاقات الإقليم وقدراته وإمكاناته الفعلية، وثالث باحث عن صيغة توافقية تحد من مخاطر التدهور والطفرات ذي طبيعة احتوائية تمنع تشكل الطفرات وانهيار البنية التقليدية المستقرة منذ أوسلو، وآخر ساع لإحداث نقلات وتغيرات جوهرية في مقولات المواجهة مع الكيان الإسرائيلي.

كل اسم يحمل مشروعا محليا وإقليميا، ويحوي مفارقات غريبة للأطراف المشتركة فيه؛ فكل يسعى لأهداف متعارضة مع أهداف حتى حلفائه أو شركائه المؤقتين ولعل دحلان حماس مصر والإمارات من أكثرها وضوحا.

فالمشاريع المتجاذبة والمتصارعة تحدد العلاقة بين المكونات الفلسطينية السياسية والسلطة ومسار المستقبل الممكن للعلاقات الفلسطينية الداخلية، وكذلك الحال لمسار العلاقة مع الكيان الصهيوني والدول العربية والجوار والإقليمي؛ ما يجعل من عملية الاختيار وتحديد المسار امر غاية في الصعوبة؛ فكل مسار يحمل تعقيدات خاصة بها وطفرات يصعب التنبؤ بها بدقة، فالمشاريع ليس لها راع دولي؛ فأمريكا كما هو واضح ليست صاحبة خيار بل تعاني من قصور ذاتي، ومن انعدام للرؤية والاستراتيجية التي تفككت عناصرها وأصبحت متداولة باعتبارها تكتيكات طامحة للتطور والاستراتيجيات بين حلفاء متشاكسين وأعداء متربصين.

فاللواء ماجد فرج مدير المخابرات يمثل احد الخيارات القوية بحكم تكوينه السياسي باعتباره عضوا مخضرما في حركة فتح ورجل آمن بامتياز، يمتلك حضورا اجتماعيا وسياسيا في الضفة الغربية لتعطيه الفرصة لضبط الإيقاع والمشهد في الضفة الغربية على وقع اتفاقية أوسلو ومشروع دايتون؛ ما يعني إمكانية الحفاظ على هذا المسار لأطول فترة ممكنة في طل بيئة باتت اكثر ممانعة لهذا المسار واستمراره؛ لتقادمه وتفكك مقولاته؛ إذ لا يحمل في طياته كخيار أبعادا سياسية ذات دلالة على العلاقات الفلسطينية الداخلية؛ فدرجة المرونة السياسية التي تتمتع بها السلطة كإطار سياسي ستشهد قدرا من الجمود وانعدام الفاعلية السياسية مع إمكانية انفجار الانقسام واتساع الفجوة بين المكون السياسي والأمني في الضفة الغربية وتدهور الأوضاع في الضفة بسبب ممارسات الاحتلال والتصعيد، واستمرار التصارع مع باقي المكونات الفلسطينية والمحاور الإقليمية؛ إذ يمثل امتدادا للأزمة الانتقالية لما بعد محمود عباس وليس حلا جوهريا بطبيعته يوقف التجاذبات وحالة التصارع الإقليمي.

يقابل الخيار الأول خيار محمد دحلان بما يحمله من دلالات إقليمية وعربية لارتباطه بمحاور متشاكسة ومتصارعة ومصالح إقليمية متضاربة يصعب التحكم بها، فضلا عن ضعف حضوره ونفوذه في القطاع والضفة، محولا أداءه إلى مناورات سياسية تقع ضمن اطار التوظيف السياسي والتصارع الداخلي الفلسطيني، فضلا عن كونها أداة وامتدادا للصراعات الإقليمية والعربية، وهو خيار لا يتمتع بالاستقرار بطبيعته؛ إذ من المتوقع أن يعمق الأزمة في الضفة الغربية ويزيد من احتمالات تفككها وانهيار السلطة بشكلها التقليدي؛ ما يجعل منه صاعقا ومناورة خطرة يسعى الكل لتوظيفها لصالحة، مستفيدا من ضعف القراءة الإقليمية والعربية وضحالتها.

الخيار الثالث وهو الأقل حظا في تحديد مسار السلطة الفلسطينية ممثل بناصر القدوة ممثل فلسطين السابق في الأمم المتحدة؛ باعتباره خيارا سياسيا اكثر مرونة واكثر قدرة على إدارة التوازنات واحتواء التفاعلات والطفرات السياسية والأمنية الخطرة؛ باعتباره واجهة سياسية مقبولة دوليا إلا أنها ضعيفة ميدانيا؛ ففاعلية الخيار تعتمد إلى حد كبير على مدى تجاوب المؤسسات الفلسطينية الداخلية في الضفة معه، وقبول القوى الإقليمية والعربية لتفاعلات هذا الخيار وقدرتها على التأثير على ميوله واتجاهاته، إلى جانب مرونته في التعامل مع باقي المكونات الفلسطينية وعلى رأسها حركة حماس واستجابة البيئة الدولية والإقليمية لمتطلباته ومساره.

الخيارات المتبقية والأسماء الممكنة سواء كانت جبريل الرجوب أو صائب عريقات أو شعث أو حتى حنان عشراوي أو مصطفى البرغوثي على يسار المشهد، كلها لا تخرج عن هذ المسارات الثلاثة لتزيد من ضبابية المشهد الذي بات انتقاليا، ويصعب حسمه بمجرد اختيار خليفة لمحمود عباس، فالأمر لا يتعلق بالوريث إنما بمدى تماسك المؤسسات وطريقة تفاعل البيئة العربية والدولية، ومقدرا القصور الذاتي الأمريكي الذي بات ملحوظا وفاضحا.

ما يرسم المشهد بات اعقد من مجرد تجاذبات فلسطينية داخلية؛ إذ يمتد وبشكل مفرط إلى التجاذبات الإقليمية والعربية سواء داخل حركة فتح بمكونها السياسي والأمني أو المكونات الفلسطينية بما تمثله من فصائل وقوى سياسية وعلى رأسها حركة حماس؛ فالمعركة الحقيقية ليست معركة خلافة بل حالة من الهشاشة والضعف تفتح الباب لمسار اكثر اضطرابا في الضفة الغربية، امر لا يمكن تجاوزه بمجرد اختيار وريث بل بإجماع وطني فلسطيني لن يتخلق إلا في ظروف مواجهة واسعة مع الكيان الإسرائيلي؛ فتجاذبات السلطة تهديد بنيوي وليس حالة انتقالية مؤسسية تجري في ظروف مستقرة وبيئة إقليمية هادئة؛ فالضغوط بطبيعتها مرة أخرى بنيوية تنبئ بتحولات كبيرة تنسجم من الاختلالات الكبيرة في موازين القوى الإقليمية والدولية وحالة القصر الأمريكي.

في المحصلة النهائية طال الزمن نسبيا أم قصر، فإن الطبيعة الصراعية في فلسطين مع الاحتلال ستحكم مسار تطور الأحداث في الضفة الغربية؛ إذ سيلعب فيها التصعيد مع الكيان الصهيوني دورا مهما في رسم معالم النخبة الصاعدة مستقبلا والتحولات البنيوية المتولدة عن المتغيرات الإقليمية والقصور الأمريكي.

طفرات الصراع تعد العامل الحاسم الذي تتهرب منه وتتجاهله أو تحاول احتواءه بعض القوى الإقليمية والعربية والدولية؛ فكما تجاهلت صمود المقدسيين الذي فرض معادلة جديدة وخلق واقعا هيأ لظهور نمط متجدد للتصارع مع الكيان أكثر فاعلية وأكثر انسجاما مع الطموحات الفلسطينية، تجاهلت هذه القوى والمحاور مرة أخرى حقيقة التحولات في البيئة الإقليمية والدولية وطبيعة التجاذبات التكتيكية الضحلة على أمل تحويلها إلى استراتيجيات تتبناها الإدارة الأمريكية المشتتة والمقسمة على نفسها؛ ما يعني أن المرحلة المقبلة ستشهد رسم مسار جديد يفقد كافة السيناريوهات المتخيلة والمتوقعة قيمتها السياسية والعملية، فارضا نمطا جديدا للصراع ولمقولاته مع الكيان الصهيوني، ومدخلا لاعبين جددا أكثر فاعلية وأكثر استجابة لمتطلبات البيئة المتغيرة والحقائق التي تم تجاهلها على مدار أكثر عقدين من الزمن؛ فالتحولات بنيوية وليست مجرد حالة انتقالية تعكس التطور في مسار السلام الأمريكي ومقولاته المتعثرة.

السبيل الأردنية