كتاب عربي 21

البوارج الإيطالية في الموانئ الليبية: بعضا من الحكمة رحمكم الله

1300x600
ما أكثر الجدل في الأزمات، ولأنه جدل أزمات فهو مقيت وفي الغالب يتجرد من الدوافع الوطنية ويتلبس بالعصبية السياسية والجهوية ويخضع لقواعد الصراع وسبيل النيل من الخصم بأي طريقة إلا طريق المنطق والقانون والمصلحة العامة.

أقدم المجلس الرئاسي على دعوة الحكومة الإيطالية للمساعدة في لجم الهجرة غير الشرعية والتي أقضت مضجع دول شمال البحر المتوسط وفي مقدمتها إيطاليا وفرنسا، فقد دأبت إيطاليا على ممارسة ضغوط على ليبيا للتعاون بشكل أكبر في هذا الملف وأثمرت اتفاقا قبل ثورة فبراير لم يتم العمل به.

الاتفاق يقضي بأن تدخل قطع بحرية إيطالية إلى المياه الإقليمية الليبية، وقد ثار لغط حول هذه النقطة، وقرأت لبعض أهل الاختصاص كلاما منضبطا في الموضوع ومداره أنه في حال خضعت القطع البحرية الإيطالية والعناصر التي على ظهرها للقوانين الليبية وذلك عند وقوع ما يستدعي تدخل قانوني فإن الاتفاق لا يعد انتهاكا للسيادة، أما إذا رفض الطليان ذلك مستغلين الوضع المأزوم في البلاد فقد وقع المجلس الرئاسي في المحظور وقام بعمل يهين الدولة الليبية.

العديد من الاعتراضات مقبولة جدا وتشير إلى مخاطر محتملة وتداعيات راجحة ينبغي للمجلس الرئاسي التحوط قبل أن يشرع في اتفاق قد يزيد الطينة بلة، لكني أعترض وبشدة على وجه آخر من الاعتراضات التي أجزم أن الدافع السياسي فيها أكثر ثقلا من العامل الوطني.

رأيي الشخصي أن جزءا أساسيا من مقاربة احتواء الهجرة غير الشرعية هو بيد الدولة الليبية ويتطلب وجودا حقيقيا وفاعلا للأجهزة الأمنية الليبية في كافة جوانب هذا الملف الذي تتعدد فيه التحديات من اختراق الحدود الليبي جنوبا إلى التنقل عبر خطوط تمتد إلى نحو 2000 كم إلى الشمال ثم محطات الاستقبال والترحيل، ولا يمكن أن تقوم الدولة الليبية بمسؤوليتها في ظل التشرذم والانقسام والصراع السياسي وهشاشة الأجهزة المعنية، والأولوية ينبغي أن تتجه إلى لملمة البيت سياسيا وأمنيا ثم التعاون المتكافئ مع الأطراف الإقليمية والدولية لاحتواء المهاجرين غير الشرعيين.

لكن ما يقلق هو الازدواجية المقيتة في معايير التعاطي مع مثل هذه المسائل، فبعض الأصوات المعترضة اقتصرت على وسم الاتفاق مع إيطاليا بالخيانة والعمالة ولم تنظر إلى اتفاقات مماثلة الانتهاك واقع فيها لأسباب سيرد ذكرها.

بل تطور الأمر إلى تهديد إيطاليا بشكل مباشر والإعلان عن ضربة البوارج في حال دخولها المياه الإقليمية أو الموانئ الليبية، وهناك حديث رسمي عن حرب ضد إيطاليا في حال تم تنفيذ الاتفاق، فيما لم نسمع، على سبيل المثال، إدانة للعبث الفرنسي في المصير الليبي بتدخلها في الجنوب الليبي وبشكل يهدد استقرار الجنوب بل ويهدد وحدة البلاد.

أكرر أن هناك خللا في معيار تصنيف التدخل الأجنبي وكيف يحكم بأنه محمود ومن دعا إليه ويسر سبيله وطني يقوم بعمل سام للبلاد، وبين تدخل آخر تبريره من الموبقات الكبرى يخرج المتورط فيه من أسار الوطن والوطنية.

أقول بأن المعايير ينبغي أن لا تنفك عن ثلاث هي:

أن يكون الاتفاق مبرما من جهة شرعية تمثل قمة الهرم في التنفيذ ويستكمل شروط إقراره وفق النافذ من التشريعات.

أن لا يصطدم الاتفاق بالتشريعات السارية.

أن يتأكد فيه تحقيق الصالح العام وأن لا يترتب عليه ما يضر بشكل مؤكد المصلحة العامة.

ووفقا للمعايير السابقة فإنه لا يقبل أن نرفع كل البطاقات الحمراء في وجه ما قام به المجلس الرئاسي ونغض الطرف عن تدخلات أخرى أكثر خطورة في أثارها وتداعياتها؟!

لا يهمني كثيرا الاتفاق ولم أكتب مقالي هذا دفاعا عنه، فما يخيفني هو اتجاه الصراع والتوظيف المخزي للأحداث لتحقيق مكاسب سياسية خاصة، وأشدد على أن التصعيد ضد الاتفاق مع إيطاليا المتعلق بالهجرة غير الشرعية لا علاقة له بموضوع السيادة، ويدخل ضمن التدافع السياسي وربما التشويش على مستجدات المرحلة الانتقالية الجديدة، فالحديث عن السيادة الليبية هذه الأيام يثير الضحك، فأين هي السيادة والاتفاقات الأمنية تبرم اليوم مع الكبير والحقير ولا يقرها برلمان ولا تضبطها مبادئ حاكمة، إلا مبدأ: كل ما هو خادم لمصلحتي فهو مشروع وما كان في غير صالحي أو يقوي خصمي فهو الخيانة المحضة والعمالة المفضوحة، والنتيجة المؤلمة هي ضياع وطن بهذا العبث الرخيص.