قضايا وآراء

السودان: الصراعات القبلية ونموذج "الدولة منقوصة السيادة"

1300x600
باتت النزاعات القبلية تشكِّل، خاصة في السنوات الأخيرة، من الملامح البارزة في تاريخ السودان المعاصر، وهي تعتبر كذلك من أكبر مهددات السلم والأمن والتماسك الاجتماعي بالبلاد.

تشهد البلاد بين الفينة الأخرى موجة من الاشتباكات ذات الطابع القبلي هنا وهناك، سواء بين قبائل ضد بعضها البعض، أو بين أفرع وأفخاذ القبيلة الواحدة.

يمكن، وبوضوح، عزو استمرار هذه الظاهرة لضعف أجهزة الدولة وتراجع سلطاتها -وانعدامها أحيانا - أو مايمكن أن نطلق عليه نموذج "الدولة منقوصة السيادة"، حيث تشارِك جماعات وأفراد وشبكات الدولة في التمتع بالسيادة، وربما تقوم بوظائف أجهزة الدولة في أحيان كثيرة!

ونتيجة لتواتر النزاعات القبلية، فقد جري تطبيعها بشكل كبير، وغدت مجرد حوادث عادية جدا، وينظر اليها على أنهاسمات لبعض المجتمعات المحلية؛ فهي لا تثير ردود أفعال او تحفّزعلى التفكير لاتخاذ إجراءات غير اعتيادية أو رادعة أو وضع تدابير لمنع تكرارها.

وآخر تلك المواجهات القبلية ما شهدته البلاد خلال إجازة عيد الفطر المبارك، حيث وقعت صدامات بين قبيلتي حَمَر والمَعَاليا (وهما قبيلتان عربيتان) وذلك في ولاية شرق دارفور، (26 حزيران/ يونيو)، على خلفية سرقة 65 من رأسا من الأغنام تتبع لقبيلة حَمَر بولاية غرب كردفان، حيث قُتل فيها 6 من حَمَر، وذلك عندما وقع فَزَع (استنفار يقوم به رجال القبائل لتعقب أو استرداد مسروقات القبيلة) مكوّن من 8 اشخاص في كمين بمنطقة (شارف).

ومقارنة بنزاعات قبلية سابقة، كان تدخل الدولة هذه المرة أسرع من ذي قبل؛ ومع ذلك لا يعتبر ذلك بأي حال من الأحوال حلا جذريا لمثل هذا النوع من التحديات الخطيرة.

يعرِّف عالِم الاجتماع الالماني الشهير ماكس فيبر؛ الدولة بأنها "جهاز شرعي يحتكر العنف فى رقعة جغرافية محددة"، كما يتم تعريف السيادة - بمعناها التقليدي - بأنها تمتع الدولة أوتفردها بالسيطرة الحصرية على القرارات، لا سيّما في مجالات الأمن والحرب، باعتبار أن ذلك من أخص خصائص "السيادة" التي لا تتجرأ، وإلا ستكون فيه السيادة ونتيجة مباشرة لهذا الوضع: تعدد الفاعلين من غير الدولة ممن يقاسمون الدولة احتكار العنف وأدواته!! كما هو حادث في السودان اليوم، حيث تعتبر النزاعات القبلية اليوم من بين أكبر مسببات الوفيات الجماعية. ويمكن إيجاز أسباب تفاقم وإستمرار هذه الظاهرة في النقاط التالية:

• ضعف سيطرة الدولة وعدم قدرتها علي بسط سيادتها علي كامل ترابها الوطني، إذ توجد بعض المناطق في أطراف البلاد ينعدم فيها أي وجود للدولة لا سيما الأجهزة الأمنية.

• الآثار بعيدة المدي للنزاع والحروب التي ظلت ملازمة لتاريخ البلاد المعاصر، حيث "تعسكرت" مجتمعات بالكامل، خاصة تلك التي تقع علي تخوم مناطق النزاع.

• سياسات الدولة لإنشاء مليشيات ومجموعات مسلحة لمواجهة تمدد التمردوعدم قدرتها -أو تراخيها - في ضبط هذه المليشيات، فضلا عنترك كميات كبيرة من الأسلحة - بما فى ذلك الأسلحة الثقيلة! - في أيدي عناصر تلك المليشيات بدون رقابة او سيطرة فعلية  من الجهات الحكومية.

• تدفق الأسلحة بكثافة الي أيدي المواطنين، فضلا عن شيوع تجارة الأسلحة وتحولها إلى نمط اقتصادي معيشي للكثيرين في تلك المجتمعات.

• فشل الدولة في توفير الأمن وبسط حكم القانون في بعض مناطق البلاد، وهو ما يدفع المواطنين الى توفير الأمن والحماية لأنفسهم وممتلكاتهم دون الاعتماد على أجهزة الدولة. وربما لعدم الثقة في قدرة الدولة على توفير الحماية لهم.

• التآكل التدريجي في السلطة الأخلاقية للإدارات الأهلية، وكذلك الزعامات التقليدية، التي كانت تتوافر علي آليات كانت تحقق الردع المطلوب، يجري الخضوع لها واحترامها، وهو ما أدى لانهيار هذه المنظومة التقليدية جنبا إلى جنب مع انهيار سلطة الدولة.

• تسيسس - أو بالأحرى "قبلنة" - الانتماءات السياسية و"تغليف" الحقوق والمطالب الاقتصادية والسياسية المشروعة بالانتماءات الأوليّة، وتحويل الانتماءات التقليدية لرأسمال والاستقواء به في المجال السياسي.

• غياب السياسات الإدماجية للدولة على صعيد التنمية المجتمعية والاقتصادية بما يوفر لمواطني تلك المجتمعات؛ سبُل شرعية لكسب العيش، ويبقيهم بعيدا عن الأنشطة غير الشرعية والمدمرة.

• عجز الدولة عن ضمان تطبيق الإتفاقيات وحماية المصالحات القبلية التي تتم في فترات سابقة، حيث يتم الاتفاق بين أطراف النزاع على تدابير معينة، غالبا ما تشمل دفع ديات القتلي وإرجاع المنهوبات، ولكن لا يتم الالتزام حرفيا بتلك التدابير من قِبل أجهزة الدولة، مما يتسبب في تجدد النزاعات القبلية.

• ضعف قوة أجهزة فرض القانون بالدولة عموما، في مقابل قوة رجال القبائل وفاعليتهم، لا سيما في الحالات الطارئة، ويزعم البعض أن مستوى تسليح بعض القبائل يتفوق ما لدى أجهزة الدولة!!

• هشاشة سيطرة الدولة على حدودها الدولية، وهو ما يساعد على تدفق الأسلحة إلى داخل البلاد، وبالتالي إفشال خطط لنزع الأسلحة وحصرها بأيدي أجهزة الدولة.

• إفراغ العديد من عمليات نزع السلاح وإعادة التسريح والدمج (DDR) من مضمونها، مما يؤدي إلى إعادة إنتاج بيئة النزاع والإبقاء على نزعة العسكرة بين الأجيال بالمجتمعات المحلية في مناطق النزاع.

ورغم وجود عوامل مختلفة تتفاوت من منطقة إلى أخرى، قد تساعد على تفسير وفهم خلفيات ودوافع النزاعات القبلية، إلا أن تلك النزاعات تتمدد بالبلاد، فبجانب انتشار الأسلحة وجذور النزاعات المسلحة، يعتبر الصراع حول الأراضي؛ عاملا مهما في انتشار النزاعات القبلية في بعض أنحاء البلاد.

إن ضعف الدولة في بعض مناطق  البلاد، ساعد علي بقاء النزعات القبلية والانتماءات دون الوطنية، لتهدد ليس استقرار وتماسك المجتمعات المحلية، وإنما تهديد الدولة نفسها، بل مواجهتها وتحدّيها، كما في حالات التنافس على الموارد الطبيعية؛ وفي بعض الحالات، تبدو القبائل أكثر ميلا للمواجهة مع الدولة ومنافسيها المحليين في نفس الوقت.

فلا غرو أن تتحول الأسلحة غير المشروعة من أهداف "مشروعة"، كتوفير الحماية مصالح الذات أو القبيلة، إلى أهداف عدوانية وإجرامية، وبذلك تشكل خطرا حقيقيا.

إن الفشل في وضع حد للنزاعات القبلية وتفاقُم حدة هذه الظاهرة، رغم مرور عقود على قيام الدولة الوطنية، إنما يؤكد نموذج "الدولة منقوصة السيادة" أو"الدولة المركزية الضعيفة".

ومن النتائج المباشرة لهذا النموذج، وهي عديدة، ولكن أكثرها خطورة، كثافة التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للدولة السودانية، وليس أدلّ على ذلك الوجود الطويل للقوات الدولية بحجة "حماية المدنيين" في البلاد.

ومن المفارقات، أنّ الدولة السودانية، والتي هي شديدة المركزية، تتعايش مع مظاهر عديدة لانتقاص سيادتها.

ختاما، لن ينهي ظاهرة النزاعات القبلية، والتي هي انعكاسات لضعف الدولة، إلا تطبيق صارم لحكم القانون وفرض الأمن واستعادة النظام باحتكار الدولة العنف بمعناه الشامل وعدم السماح للقوى المحلية خارج الدولة للقيام بواجباتها الدولة ووظائفها، فضلا عن ضمان وجود قوي لأجهزة الدولة، ليس فقط من خلال توفير "سلعة" الأمن، وإنما بتوفير الخدمات الضرورية لاستدامة الاستقرار والتعايش والاندماج، وتوفير "الأمن الإنساني" الشامل لكافة مواطنيها وحمايتهم.