كتاب عربي 21

هل تنزلق حماس لمصير فتح الكارثي؟

1300x600
ركزت معظم التعليقات المنتقدة لوثيقة حركة حماس السياسية الجديدة على التخوف من انزلاق الحركة إلى مآلات شبيهة بمآلات حركة فتح، وبالتالي الوصول إلى مصيرها، بعد أن تحولت إلى حزب سلطة مرتبطة ارتباطا عضويا بالاحتلال، وفق تعهدات اتفاقية أوسلو.

وتنطلق هذه المخاوف من أرضية مشروعة، بسبب تشابه بعض البدايات في تاريخ الحركتين، إذ ينظر الكثيرون للوثيقة الأخيرة لحماس كنقطة بداية لمسار متتابع من التنازلات، يشبه مسار فتح الذي بدأ بشكل رسمي بمبادرة "النقاط العشر" للحل المرحلي في العام 1974، وإن كانت قد بدأت بخطوات غير رسمية قبل هذا التاريخ.

وبمقارنة وثيقة حماس بوثيقة النقاط العشر، يمكن إيجاد تشابه كبير بينهما، إذ تمسكت كلاهما بتحرير كامل تراب فلسطين التاريخية، وإن قبلت بدولة على جزء من الأراضي الفلسطينية المحررة في النقاط العشر، أو على 67 في وثيقة حماس، كما أكدت الوثيقتان حق الشعب الفلسطيني بالمقاومة، بأشكالها كافة، بما في ذلك الكفاح المسلح.

فهل يكفي تشابه الوثيقتين للقطع بأن حماس ستسلك طريقا مشابها لفتح؟
على الرغم من مشروعية المخاوف، بل وضرورة استمرار التحذير منها ورفعها في وجه حماس، فإن وجود تشابه في مرحلة تاريخية بين حركتي حماس وفتح لا يعني بالضرورة أن مصيرهما سيكون متشابها، لأسباب مختلفة تتعلق بالحركتين وبالوضع الإقليمي.

أولى الأسباب التي تدفع للقول بأن من غير المرجح أن تنزلق حماس لمزالق فتح، هو طبيعة الحركتين وطريقة اتخاذ القرارات فيهما؛ لقد كانت حركة فتح دائما تحظى بنوع من التشكيلات ذات الطابع "الديمقراطي" النسبي، ولكن القرار مع ذلك كان دائما يتركز في يد الرئيس الراحل ياسر عرفات. كان عرفات يمتلك شخصية قيادية وقدرات سياسية هائلة، مكنته من امتلاك القرار تماما في حركة فتح ومنظمة التحرير، وكان عرفات يمتلك القدرة على التلاعب بتشكيلات منظمة التحرير وفتح والتحكم بها لضمان سيطرته على القرار فيهما، من خلال تأسيس كيانات نقابية تابعة فعليا له ولحركة فتح، ثم منحها نسبة تمثيلية في مؤسسات المنظمة وعلى رأسها المجلس الوطني الفلسطيني، وهو ما منحه القدرة على التفرد في صناعة قرار فتح والمنظمة لعقود طويلة.

وبالمقابل، فإن حركة حماس تمتلك آليات معقدة في اتخاذ القرارات الاستراتيجية، يشترك فيها ممثلو الداخل (الضفة الغربية وغزة والسجون) والخارج، وهو ما يمثل نوعا من الكوابح التي يمكن أن تعطل انزلاق الحركة لمصير يشبه مصير حركة فتح. بالطبع لا تخل تشكيلات حماس وسياساتها الداخلية من ألاعيب السياسة والتحالفات المصلحية والمناطقية والسياسية، مثلها مثل أي حزب أو منظمة سياسية، ولكن تعقيد آليات اتخاذ القرار في الحركة كما يبدو مما ينشر إعلاميا حولها، يجعل من الصعب التكهن لها بمسار يماثل مسار حركة فتح، التي كان عرفات يتحكم بقرارها. ولعل انتهاء دور خالد مشعل رئيسا للمكتب السياسي لحماس، سيساهم في زيادة تعقيد الأمر؛ إذ إن الرجل امتلك، بلا شك، خلال أكثر من عشرين سنة في قيادة الحركة نفوذا كبيرا، وعلاقات دولية، يمكن أن تؤهله للسيطرة على قرارات حماس، ولكن انتخاب قائد جديد هو إسماعيل هنية، سيجعل من الصعب عليه امتلاك قرار الحركة، فهو يحتاج لسنوات طويلة حتى يمتلك النفوذ الداخلي والعلاقات الخارجية التي امتلكها مشعل خلال عقدين من الزمن.

السبب الثاني الذي يدفعنا لترجيح عدم انزلاق حماس لمصير فتح، يتعلق بالجغرافيا التي تتحكم بالسياسية. فبينما كانت حركة فتح سياسيا والأهم عسكريا تتمركز خارج فلسطين، فإن القوة العسكرية لحماس كلها في الداخل، فيما يتوزع النفوذ السياسي لحماس بين الداخل والخارج، وربما سيزداد تأثير الداخل في المرحلة القادمة وخصوصا قطاع غزة، في ضوء انتخاب هنية رئيسا لها.

لقد أدى تمركز فتح خارج فلسطين إلى خضوعها بشكل كبير إلى إكراهات العلاقات مع دول الإقليم، خصوصا بعد خروج المقاومة من بيروت وخروج عرفات الثاني من طرابلس عام 1983، حيث فقدت الحركة تأثيرها عمليا بابتعادها عن حدود الوطن، وأصبح مقاتلوها عبئا ماليا وسياسيا، بدلا من أن يكونوا ورقة قوة تعزز الموقف الفتحاوي في ظل بعدهم عن فلسطين. هذا الوضع الذي تزامن مع تغيرات دولية وإقليمية أهمها حرب الخليج الأولى وانهيار الاتحاد السوفييتي، وضعت فتح في موقف لا تحسد عليه، وأصبحت الحركة أمام واحد من خيارين: إما الذوبان في المنافي، أو محاولات إحداث اختراق سياسي يحل أزمتها الداخلية وأزمة انسداد الأفق النضالي والسياسي، وهو الأمر الذي قاد عمليا إلى أوسلو. 

أما في حالة حماس، فإن تمركزها في الداخل يمثل عبئا من نوع آخر بلا شك؛ إذ أصبحت غزة سجنا كبيرا للحركة وللشعب الفلسطيني ككل، ولكن العبء في حالة حماس يقابله وجود عسكري وشعبي في غزة يمثل ورقة قوة، ونفوذا لا يمكن القفز عنه بسهولة.

أما العامل الثالث الذي يمثل اختلافا في مسار حركتي فتح وحماس، فهو الفرق في الفكر السياسي لهما، والاختلاف بين طموح قياديتهما. لقد أصبحت فتح بعد معركة الكرامة قائدا للحركة الوطنية الفلسطينية بلا منازع، ويمكن القول إن الحركة كانت العامل الرئيسي في تشكيل "الهوية الفلسطينية" التي نعرفها اليوم، وهو الأمر الذي صبغ فكر الحركة، خصوصا رئيسها ياسر عرفات بفكرة مركزية هي: "قيادة المشروع الوطني". هذه الفكرة المركزية إضافة لطموحات ياسر عرفات الشخصية بقيادة الشعب الفلسطيني، جعلت من الصعب عليه أن يرضى برئاسة حركة أصبحت مجرد آلاف من المقاتلين في تونس، بعيدا عن صناعة الحدث في فلسطين، أو عن الاشتباك مع الاحتلال عبر حدود دول الطوق. لم يكن ممكنا لزعيم مثل ياسر عرفات إلا أن يخوض صراعا سياسيا يعيده ويعيد فتح لقيادة الشعب الفلسطيني بأي ثمن، وهذا الثمن كان اتفاقية أوسلو التي لم تكن سوى تتويج لمسار متصاعد من التنازلات، خصوصا بعد الخروج من بيروت.

حركة حماس هي الأخرى لديها طموحات سياسية بقيادة الشعب الفلسطيني، والتربع على زعامة مشروعه الوطني، ولكن الحركة تدرك أن طموحاتها محدودة بسقف وجود حركة منافسة وأكثر رسوخا في التاريخ الفلسطيني الحديث هي حركة فتح. تدرك حماس أيضا أن تنافسها مع فتح محكوم بمسارين:

الأول: هو الصراع على قيادة المقاومة، والثاني: هو مسار الصراع على السياسة بما فيها من تفاعلات وتداخلات محلية وإقليمية. وهي تدرك أيضا أن ملعبها الذي نجحت فيه هو ملعب المقاومة، ولا يمكن لعاقل في قيادتها أن يتخيل أنها ستستطيع منافسة فتح على الاعتراف الدولي دون أن تقدم تنازلات أكبر من تلك التي قدمتها فتح، وهو مسار محكوم بالفشل وسيخسرها نفوذها وشعبيتها في صفوف الشعب الفلسطيني، وعليه، فمن الجنون أن تفكر قيادة حماس بمسار مثيل لمسار فتح الذي باتت نتيجته معروفة لأي طفل فلسطيني. والأهم من ذلك أن لا وجود لزعيم حمساوي يشبه عرفات، الذي كان مسكونا بضرورة السيطرة على قيادة الشعب والمشروع الفلسطيني بأي ثمن، فيما رأينا خلال الأيام الماضية زعيم حماس خالد مشعل يتخلى عن قيادة الحركة التزاما بلوائحها، ولو كان يمتلك الطموح الذي امتلكه عرفات، لما كان ممكنا أن يترك قيادة حركته بهذه السهولة.

ومع عدم ترجيح انزلاق حماس لمسار فتح، إلا أن التحذير من مصير مشابه يعد أمرا ضروريا، خصوصا بعد ما تم استرجاعه خلال الأيام الماضية من تصريحات إعلامية لحلفاء تقليديين لحماس، ركزوا فيها على استخدام علاقاتهم مع الحركة لدفعها لاتخاذ مواقف أكثر "اعتدالا". لقد بات واضحا بعد العدوان الثالث على قطاع غزة صيف 2014 أن القطاع أصبح مشكلة إقليمية، وأن الأطراف المعنية بالوضع الفلسطيني في المنطقة والعالم تريد هدوءا شاملا فيه، بعد أن فشلت ثلاثة حروب بتحقيق هذا الهدوء، ولذلك دفعت أطراف إقليمية قريبة من حماس لعقد اتفاق بموافقة أوروبية يوقف الحرب عام 2014، ويقدم بعض التسهيلات المعيشية لغزة، عبر حل أزمة الكهرباء وتدشين ميناء بحري تحت سيطرة أوروبية. مثل هذه الحلول التي يوافق عليها حلفاء حماس، قد تجعل الحركة في وضع مثيل لوضع منظمة التحرير في تونس، حيث ستصبح القوة العسكرية عبئا على حماس بدلا من أن تكون ورقة قوة، وربما ستكون غزة بوابة لتنفيذ خطة ما يعرف بالسلام الاقتصادي الذي روج له توني بلير في أثناء عمله مبعوثا للرباعية الدولية، سواء برضا حماس أو بعدمه، إذ إن خلق وقائع سياسية على الأرض قادر بشكل أو بآخر على التحكم بخيارات أي حركة أو تنظيم سياسي، ففي معظم الأحيان تكون الوقائع قادرة على هزيمة "صلابة" السياسي وليس العكس، وهو ما يجعل المخاوف على مآلات حماس أمرا يستحق التوقف عنده.