كتاب عربي 21

رسالة إلى قارئ مفقود

1300x600
(1)
لكل كاتب قاريء افتراضي، يخاطبه في مقالاته، ويسترشد به، أو يمارس عليه وصاية التعليم عن بعد (وأحيانا عن قرب)، بل ويجرب عليه أفكاره وشطحاته، وأحيانا تتغير المعادلة، فينافقه ويتملقه، ويكتب ليلبي حاجة ذلك القاريء، من دون أن يجروء على مواجهته بحقائق صادمة، حتى لو كانت صحيحة، وضرورية للإفاقة من غيبوبة، أو لتعديل مسار تعرض للانحراف.

(2)
منذ سنوات تكويني الأولى كانت علاقتي بالسلطة واضحة ومحسومة، فأنا ضد كل سلطة بمشاعر بدائية راسخة، وأعتقد ان هذا الموقف ترسب في أعماقي نتيجة القيود الصارمة التي كان يفرضها علي والدي (شفاه الله وعافاه)، فتحولت علاقتي به إلى كتالوج "السلطة والمعارضة"، لكن علاقتي بالناس وبالأصدقاء لم تكن محسومة ولا سهلة، بل كانت مشكلة صعبة تستهلك الكثير من وقتي وطاقتي، لأنني اخترت الأصدقاء كمجتمع اختياري أعيش فيه، بديلا عن حضانة العائلة الكبيرة بتقاليدها العتيقة، وبعيدا عن الخضوع لسلطة الكبار، فالحياة في مجتمع الأصدقاء أكثر حرية، وأكثر تجانساً وأكثر تسامحا مع الأخطاء، لكنني في لحظة اكتشفت ان هذه العوامل الإيجابية تحولت مع الوقت إلى سلبيات خطيرة، انزلقت بمجتمع الأصدقاء إلى مجرد "شلة" تعيش فيها بالمواكبة والتبعية والتواطوء، وإلا تكون ثقيل الظل، و"وش عكننة"، وكان لزاما عليّ أن اتحول أيضا إلى معارض لسلطة الأصدقاء، بعد معارضتي لسلطة الوالد.

(3)
في تلك الفترة الجامعية علقت على حائط غرفتي لوحة تتضمن عبارة مكسيم جوركي "جئت إلى هذا العالم لأعترض"، ومع كل صدام، لم أكن افكر في خطا الاعتراض، بل كنت أسعى لتثقيفه لكي يتنزه عن التعطيل والتنابذ والرؤية الذاتية الضيقة، ولكي يكون مفيداً يجلب المصلحة لمن أنتقده واعترض على سلوكه، وكثيرا ما نجحت في تحويل الغاضبين من اعتراضي إلى اصدقاء بعد ان ادركوا أن مواقفي لم تكن على حسابهم، بل تضاف إلى حسابهم، ومع أول نتيجة إيجابية حققتها كمعارض ادركت المعنى الحقيقي لكلمة "التقدم"، والجوهر الإنساني لاتجاه "اليسار"، وأدركت ايضا أن "الكليشيهات السياسية" أضرت كثيرا بالمعنى والجوهر، ولم تترك على الساحة إلا جثثا مشوهة تواصل القتال في معارك التناحر العبثية، من أجل "كليشيهات" لا أكثر، بينما المعاني والجواهر منبوذة، ولا يلتفت إليها أحد. 

(4)
من عمق هذه المأساة، أخشى على نفسي من التشيؤ والاستسلام لسرطان التآكل الذاتي، فأنا لا أرغب أن أكون طرفا في صراع أرى أن أطرافه كلهم من الضحايا، وأحيانا من المسوخ، بينما الإنسان في صورته البسيطة يعاني من كل هذا الهراء وكل هذا الدم. هكذا أنظر إلى مأساة الانقسام الفلسطيني، ولا أرى الحل في أي تسوية دولية يدخلها أهلنا في فلسطين وهم على هذا الحال المؤسف، وهكذا أنظر إلى الماساة السورية، ولا أرى أن تسويات واشنطن موسكو ستسفر عن سعادة أهلنا في الشام العزيز، وهكذا أرى الحال في اليمن، وفي ليبيا، وفي السودان، وهكذا أنظر إلى مصر حيث أعيش في مستعمرة الجنون اللطيف، وأتابع عناق المأساة والملهاة، كأننا نعيد الاعتبار إلى هجائية المتنبي: وكم ذا بمصر من المضحكات.. لكنه ضحك كالبكا. 

(5)
هكذا تبدو القضايا العربية كثيرة ومثيرة للكلام، فقد أصبح العرب "موضوعا" للعالم الباحث عن تسلية، أو تشويق، أو فرصة لإثبات إنسانيته بالتعاطف مع الضحايا، لكنني لا أريد ان أكتب في ذلك، لا أريد أن أواكب ما أرفضه، ولا أريد أن أنافق القاريء، بعد أن قاومت نفاق السلطة، لا أريد أن اقدم لكم ما تحبون من كلام وما ترغبون من مسوغات تشعل حماسكم للاقتتال، وتنصركم على إخوانكم الألداء، بل أنني أريد أن أصرخ فيكم: توقفوا... توقفوا أيها التعساء، أريد أن أنهاكم عن ذلك "الجهاد المدنس" الذي تؤمنون به "إيمان هند بنت عتبة"، وتمارسونه بإخلاص "داحس والغبراء".

(6)  
لهذا يسكنني حزن غامض.. لا يسلبني أملي، ولا يشعرني بانقباض محبط، بقدر ما يسمو بالنفس فوق أوجاع المرحلة، ويحرضني على حفر ثغرة في الجدار، وعلى هدف العثور على طريق يأخذنا بعيدا عن المهلكة.. ولهذا أشعر ببعض الارتباك، بالبطء، بالرغبة في الهدوء وسط الاقتتال المحموم، والتراشق بحراب "الحقيقة" التي يتصور كل طرف أنه يملكها وحده.. ولهذا أشعر بالوحدة.. بأنني أنظر للفراغ، وأكتب للفراغ.. بأنني لم أجد بعد ذلك القاريء خاوي اليدين، ممتليء الرأس، عامر القلب، الذي يبحث عن ساذج مثلي، يجلس معه فوق أنقاض الهزيمة العربية الدامية، ويشترك معه في حديث المحبة والتسامح، ويحلم معه بأن المستحيل ممكن، ويبدأ معه مهمة إعادة بناء عالمنا المنهار.. برغم كل هذه الحرائق، وكل هذه الأهوال، وكل هذه الحماقات.

(6)
عزيزي القاريء المفتقد.. ساعدني لأحيا. 

ساعدني لنحيـا...