كتاب عربي 21

الديمقراطية نقدها وما تخفيه

1300x600
ثمّة تأكيد مضطرد على مشكلات الديمقراطية، من مناهضيها بطبيعة الحال، ولكن أيضا من أنصارها ودعاتها، ولكنها تظلّ لدى الآخرين التدبير البشري الأفضل –حتى الآن- لتنظيم الحياة السياسية وتدبير السجال الاجتماعي المستمر وتأطيره بحدود من الاستقرار والسلمية.

بطبيعة الحال، وبالرغم من الطابع التبشيري الساذج بالديمقراطية لدى أوساط من دعاتها جعلوها مثالا ومنتهى الممكن البشري، فإن نقدها من طرف أوساط أخرى من دعاتها قديم، وإن كان نقدها في المجال الغربي مواكبا لتجربة معيشة، فإن نقدها في مجالنا العربي تلبّسته استشكالات كثيرة ليس أقلّها أنها منتج مستدعى من تجربة أخرى.

ومن ثم، وفي حال الهزيمة والبطالة الحضارية، واستشراء الاستبداد، وعدم حسم الأسس الاجتماعية والثقافية التي تنبني عليها النماذج السياسية، فإن مقاربة الديمقراطية ستظل خاضعة للغرائز، لا سيما غريزة الخوف، أكثر من خضوعها للعقل، أما الحوارات حولها فهي مناكفة أكثر من أي شيء آخر.

تهندس الأنظمة السياسية المستبدة المجتمعات الأهلية بتعزيز تناقضاتها بما يجعل النظام القائم ضمانة الحماية لفرقاء المجتمع الأهلي، وينتج عن ذلك شبكات مصالح محافظة تخشى التغيير وترى في أي نظام سياسي جديد، أو تدبير جديد لإدارة الاجتماع السياسي، تهديدًا لمصالحها، أو مسًّا بعوامل استقرارها.

من هنا ينشأ جانب من الخوف، بالإضافة إلى الجانب المتعلق بمنشأ ومرجعية الديمقراطية، وانقسام الناس عادة إزاء ذلك إلى متحوصل في ذاته خشية من الجديد القادم من سياق مختلف، أو منبهر ومستلب تجاه كل ما هو قادم من السياق الأعلى يدًا سياسية وعسكرية وعلمية.

حتى عمليات التحديث الفوقية التي خضعت لها المجتمعات العربية، فقد قامت بها أنظمة مستبدة لم يكن متوقعا منها أن تدير عمليات التحديث تلك بما يثقف شعوبها بالديمقراطية أو يهيئها لانتقال ديمقراطي، كما أن عمليات التحديث لم تتمكن من توحيد رؤية المجتمعات العربية لنفسها والعالم، لقوة المعنى الكلي المهيمن على الوعي العربي، أي الإسلام الذي يملك رؤية للإنسان والعالم.

لم يتمكن العرب المسلمون من تطوير علاقتهم بمعناهم الكلي المهيمن ضمن سيرورة متصلة غير منقطعة، وإنما تشوّه هذا الوعي بحكم الانحدار الحضاري والانقطاع الذي فرضه الاستعمار وعمليات التحديث الفوقية التي انتهجتها أنظمة الاستبداد.

على أي حال، وحتما، سيبرز النقد للديمقراطية بعد الثورات العربية، لأنها بشرت عقبها مباشرة بإمكانية استئناف الاجتماع السياسي على أساس من تدبير جديد هو الديمقراطية، ولأن هذه الديمقراطية جاءت بالإسلاميين، اكتشف "الديمقراطيون الافتراضيون" فجأة، أن الديمقراطية قد تأتي بأعدائها، فاستدعوا ذاكرة الديمقراطية التي جاءت بهتلر، وعادَوا الديمقراطية التي يستمدّون أفكارهم من المجتمعات التي أنشأتها، أفكار التغريب والتحديث!

كان ذلك النقد مسيّسا، وإلا لو كان الإسلاميون جماعات هامشية غير مؤثرة، لما تذكّر أحد أن الديمقراطية لا تعني الانتخابات، ولكن في الحقيقة لم تكن الأسس الاجتماعية وما يتعلق بذلك من الحريات الفردية والمدنية محسومة لدى المجتمعات العربية، التي يمثّل الإسلاميون صورة من صور عمق المعنى المهمين عليها.

كان ذلك سيفضي –ضمن ظرفه الذي هو الثورات العربية- حتمًا إلى الصراع، بين من يفوز بالصندوق ومن يخسر، وبين شبكات مصالح النظام الاجتماعية والسياسية ومنافسيها الجدد. هذا الصراع يدور في بعضه لحسم الأسس الاجتماعية التي ينبغي أن يقوم عليها التدبير السياسي، بمعنى المرجعية القيمية والاجتماعية.

هذا الاعتبار كان يجعل التحالف مع العسكر والنظام القديم أفضل لدى "الديمقراطيين الافتراضيين" من سجال الصندوق الذي قد لا يأتي بهم، أو قد يكرّس وقائع اجتماعية تتناقض مع أنماط حياتهم وتصوراتهم الثقافية والاجتماعية. هذا فضلاً عن أنصار الطغاة الذين سيستخدمون بالضرورة حجج "الديمقراطيين الافتراضيين"!

ما يخفيه هذا الموقف هو الرغبة في الإلغاء الكامل للمختلف الثقافي بتغريب مجتمعاتنا ثم إدارة الديمقراطية على أساس المجتمعات الجديدة، سيطال الإلغاء الدين نفسه بإعادة تعريفه ليناسب تصورات "الديمقراطيين الافتراضيين"، أي فرض العقائد على الناس، وبكلمة أخرى سيصبح بعض الناس مصدرا لعقائد بقية الناس. هنا يخفي التصور المفترض للديمقراطية نوايا الإلغاء ويحتج في خطابه المعلن بالخوف من الإلغاء!

في مثل هذه الظروف لا بدّ أن تكون الديمقراطية أداة لإدارة صراع، بما في ذلك الصراع على الأسس الثقافية والاجتماعية والسياسية، فإن لم تكن هي الأداة، فلا بد من حسم ذلك الصراع، بانتصار واضح بأدوات أكثر عنفا واضطرابا وقلقا، أو تسويات كبرى هي نتاج العنف والفوضى والقلق أيضا.

أخيرا يعود نقد الديمقراطية مع فوز ترامب بالبيت الأبيض، ووصول لوبان للجولة الثانية في الانتخابات الفرنسية، وصعود اليمين الأوروبي عموما، إذ يجري الحديث عن أن الديمقراطية، مهما حاول سدنة النظم، لا يمكنها أن تمنع المتطرفين والشعبويين من الوصول للحكم في بلاد الديمقراطية نفسها، ثمة من ينتقد الديمقراطية لهذا السبب، وثمة من يقول إنها بالرغم من ذلك تظلّ أفضل المتاح البشري لتنظيم الاجتماع السياسي حتى الآن.

الاندهاش من وصول شخصيات أو أحزاب معينة أو القلق البالغ من ذلك، وكثرة الحديث عن المؤسسة والنخب التقليدية المتحكمة وحتى عن الدولة العميقة والقوى المهيمنة، لا يعني سوى أن الديمقراطية في بلادها أيضًا مصممّة للتحكم والضبط والسيطرة، ولضمان القدرة على إدارة هوامش التغيير المحدودة، وأنها لا يمكنها –أبدًا- أن تكون معبّرة عن كامل التنوعات المجتمعية، وأنها تتضمن إكراهات من نوع ما، وهي بالضرورة وفي كل الأحوال، إذ هي كذلك، عملية لإدارة الصراع.

إن كان الأمر كذلك، وكان الاجتماع البشري معقدًا إلى درجة يستحيل فيها ابتداع نظام جامع يمتلك قدرة تامة على التمثيل، فلا بد لنا من أن نختار إكراهاتنا الخاصة من سياقنا نحن، وأن تنبثق أنظمتنا من معنانا الكلي المهيمن الذي لا يمكن طمسه أو تغييبه.

ثمة نقطة، وهي أن نقد الديمقراطية مهما كان وجيها، يصعب التعامل معه بجديّة إن كان مصدره أنصار الطغاة!