قضايا وآراء

هل من مستقبل للتهجير الديمغرافي في سورية؟

1300x600
تطرح حركة التهجير الجارية في سورية، بكثافة وإطراد، السؤال عمّا إذا كان المقصود منها استخدامها من قبل نظام الأسد كمظهر من مظاهر استعادة السلطة ومؤشر على هزيمة الثورة، ووفق هذه الرؤية تتحوّل العملية إلى مجرد توظيف إعلامي راهني لن يكون له تصريفات سياسية مهمة، وهي ليست سوى ظاهرة هامشية في إطار مرحلة إسقاط الأسد والتي ستطوي بعد حصولها كل هذه الظواهر وبالتالي ليس ثمة داع للانشغال بها.

تفترض هذه الرؤية أن الأمور في سورية ستنتهي بإسقاط الأسد على كل حال، سواء من قبل الثوار، أو عن طريق تحالف خارجي، أو حتى من خلال التوافق على منعه من الترشح لولاية جديدة في أضعف الإيمان، وبالتالي تصير كل الإجراءات التي تم اتخاذها في زمنه باطلة ويعود كل شيء إلى طبيعته، من الحجر الذي تدمّر إلى الإنسان الذي تهجّر، سواء داخل سورية أو خارجها.

تغفل هذه الرؤية حقيقة أن الأحداث في السياسة لا تسير بشكل شاقولي، كما أن مخارج الأزمات لا تكون على شكل خيار افتراضي واحد، وأن الصراع حينما يميل للحل فإنه ينحو صوب الحلول الأكثر واقعية وقابلية للتطبيق، لذا فإن أطرافه تتسابق في اللحظات التي تعتقد أنها في مرحلة ما قبل الحل مباشرة على تثبيت أكبر قدر من المعطيات والوقائع لطرحها على طاولة المفاوضات بوصفها أوراق قوّة تمتلكها الأطراف وتصبح أساساً للمفاوضات، وإلا ما قيمة التفاوض؟

ليس خافيا إدراك نظام الأسد ومشغليه، من الإيرانيين والروس، لهذه الحقائق، وقد صمّموا إستراتيجياتهم القتالية والتفاوضية في سورية بناء على إدراك أن الوقائع هي التي ستتحدّد طبيعة الحل ونتائجه، وبالتالي ليس مهما أن يطعن العالم بأخلاقياتهم الحربية وسلوكهم تجاه ضحاياهم السوريين، وقد انتزعوا من العالم سماحه لهم بكل الارتكابات باستثناء استخدام الأسلحة الكيماوي، بما يعني ضمنا الموافقة على كل الممارسات التي يقوم بها هذا التحالف والتي تتضمن عمليات التهجير الديمغرافي.

وكما تصميمهم لإستراتيجياتهم القتالية فهم أيضا يصممون حلولا ليس لها سوى اتجاهات محدّدة وأوراقهم التفاوضية في ذلك ليست من كيسهم ولا من مكاسبهم، وإن بدت للحظة كذلك، وعلى سبيل المثال ما يتم طرحه الآن من قبل القوى المواجهة لروسيا وإيران في سورية بأن سر كلمة الحل سيكون تنازل بشار الأسد عن السلطة، وهذا يعني أن الحصول على هذا التنازل سيكون الورقة التفاوضية الأكبر لدى هذا الفريق كما أن عليه تقديم تنازلات مقابلها، وأول تلك التنازلات ستكون القبول بكل الأوضاع التي جرى تأسيسها في سورية بما فيها عمليات التغيير الديمغرافي، ثم القبول بنظام يسيطر فيه أنصار الأسد على السلطة في المرحلة المقبلة من أجل تثبيت هذه الوقائع وتكريسها، بالنسبة لروسيا الحفاظ على قواعدها وامتيازاتها الاقتصادية، وبالنسبة لإيران تثبيت الإحلال الديمغرافي الذي قامت به في حمص ودمشق وحلب والقلمون.

على ذلك، فإن التهجير الديمغرافي ليس قضية عابرة ولا يرتبط بسقوط الأسد، بمعنى أنه ينتهي بنهايته، ثم تصلح الأحوال نفسها وتعود سورية إلى دورة حياتها السابقة ويرجع كل إلى منزله، والأكيد أن من صنع ظاهرة التغيير الديمغرافي صنع بالتوازي معها شروطا ووقائع تدعّم سيروريتها واستمراريتها وجهّز لها سياقات لتثبيتها وأوراق لدعمها بوصفها استثمارات سياسية واجتماعية في سورية المستقبلية.

الخروج من هذه الوضعية يستلزم بالدرجة الأولى تغيير فلسفة التفاوض الحالية وإخراج ورقة بشار الأسد بوصفها الجوكر من قائمة التفاوض على اعتبار أن سقوط بشار الأسد يجب ألا يكون محل تفاوض باعتباره ساقطا "ميدانيا" بحكم استعانته بقوى خارجية استعملته من أجل مصالحها، وساقطا سياسيا بحكم ثورة الشعب السوري ضده وارتكابه جرائم حرب في مواجهة مطالب الشعب السوري بالحرية والعدالة.

وتدعيما لهذا الأمر يستوجب رفع الصوت وتنبيه المجتمع الدولي لهذه الكارثة التي تجري في سياق عمليات جرائم حرب موصوفة، ذلك أن التهجير هو النتيجة النهائية لعملية إبادة طويلة تتخذ مراحل الحصار والقتل تجويعا وتدمير المناطق المستهدفة بكل أنواع الأسلحة والقصف العشوائي، بعد أن تكون السجون والمعتقلات قد أخذت حصتها من أبناء هذه المناطق، وعندما تحصل عمليات التهجير تكون المجتمعات المستهدفة قد تركت جزءا كبيرا من أبنائها في القبور أو مسجلين على قوائم المخفيين.