كتاب عربي 21

تونس العطشانة

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
فيما تحتفي نخبة تونس المثقفة جدا بكتاب الأديب الألمعي "حسن بن عثمان" الذي عنونه "تونس سكرانة" وتمنح الجوائز الأدبية للمفكر الذي اجترح مفهوم "البهمولوجيا" وأحدث به في الفلسفة حدثا فارقا يعيش الفلاح التونسي الصغير أزمة مياه حادة ويعجز أن يسقى مزروعاته فتعجز سوق الخضر وتشح المنتوجات فترتفع الأسعار فتسكر تونس من فقر الخطط التنموية التي وضعت أسسها دولة الزعيم قبل أن تسكر البلاد بفعل خمر الثورة فيكتبها مثقفو بن علي "تونس سكرانة" وهم لا يعون من سكرهم أن الغلاء مصيبة تبدأ من شحّ المياه وبقاء البلد بعد عيد الاستقلال الواحد والستين ترفع رأسها إلى السماء وتنتظر الغيث النافع وتدعو أن لا يجعلها الله من القانتين.

أزمة المياه في تونس 

تونس التي تمتلك أكثر من 1500 كلم من الشواطئ وتنفتح على المتوسط من جهتين تعاني من أزمة جفاف دائمة تزداد حدّة كلما شحّت السماء وقد شحّت هذه السنة خاصة في الشمال الغربي حيث مواضع السدود الكبرى التي تموّل الزراعة والمدن بمياه الشرب وتغذي أكثر من نصف المساحة المزروعة والمغروسة.

في خمس ولايات (محافظات)زراعية بامتياز هي جندوبة وباجة ومنوبة وبنزرت وأريانة أي طول مجرى نهر مجردة وهو الشريان الحيوي للزراعات التونسية يعيش المزارعون أزمة ري فقد اتخذت الحكومة إجراءات قاسية لتقسيط الماء على زراعات الخضر والحبوب ومنعت الضخ الفردي والجماعي وصادرت محركات المزارعين الذين يسرقون المياه كآخر حل وجدوه لإنقاذ مواسمهم وحجّة الحكومة في ذلك حق ولكن يراد باطل كثير فاقتصاد الماء يتم الآن تحت عنوان ادخار مياه الشفة (الشرب) للمدن الكبرى وهي مراكز الولايات المذكورة وتونس العاصمة ومنطقة الوطن القبلي (نابل والحمامات وقراها ومداشرها) وإلى ذلك منطقة الساحل التونسي أي سوسة والمنستير والمهدية. 

هذه المناطق هي مناطق الاستثمار السياحي بامتياز وتستهلك السياحة أكثر من نصف الكمية المجلوبة من مجردة (حوض الشمال الزراعي) إلى المناطق السياحة الجافة والتي وسعها بن علي لتشمل المهدية التي كانت تتغذى من سدين في وسط البلد هما سد نبهانة وسد الهوارب (محافظة القيروان). وقد نضبا منذ سنتين.

وقد كان مكشوفا لكل الخبراء أن توسيع منطقة توزيع مياه الشمال للساحل وبغرض إيفاء السياحة حقها من المياه سينعكس سلبا على المدّخر من مياه الشمال وسيفقر المنطقة الزراعية في أول سنة جفاف وقد حلّت سنوات الجفاف وازدادت حدّة في هذا الموسم هنا تتجلى الديماغوجيا التي تلتجئ إليها الحكومة لاقتصاد المياه. المياه تدّخر نعم ولكن لكي لا تحدث أزمة مياه في السياحة ولكي لا تفرغ المسابح في النزل فالأسرة التونسية التي تدفع كلفة الماء من حر مالها تستهلك أقل من حاجة غرفة سياحية مصنفة. والحكومة تبدو مشغولة بتأمين حاجة النزل في مواسم الصيف السياحي أكثر ما بدت مشغولة بتأمين حاجة الفلاحين للري هنا بالذات تظهر الحكومة سكرانة بينما تونس الشعب عطشانة وتبلع ريقها بصعوبة. 

أزمة المياه هي أزمة غذاء بالضرورة

سكر الحكومة البين يظهر في عدم الربط بين أزمة المياه وغلاء الأسعار فالمزارع الممنوع من الري توقف عن الإنتاج وعجز بما قلل المنتوج وحد من تزويد السوق وفي كل حالة ندرة ترتفع الأسعار وهو قانون بسيط من قوانين السوق. 

السوق المحلية تُفقّر وتصدير المواد الفلاحية ترتفع كلفته عند المنتج بما يعجز المصدر عن الاحتفاظ بسوقه وتقليص التصدير يقلص موارد النقد الأجنبي فيزداد الاعتماد على موارد السياحة على أمل تعويض النقص في النقد الأجنبي فتضخّ مياه كثيرة لترفيه السائح بتحسين الخدمات فيزداد تفقير الفلاح.

دائرة مغلقة وضعت فيها تونس نفسها منذ خيرت الاعتماد على السياحة كمورد اقتصادي رئيسي وهي تعرف مسبقا أنها بلد مهدد بالجفاف والحلول التقنية لا تزال بعيدة المنال لأنها تحتاج تقنية متقدمة وتجهيزات مكلفة ليست في متناول البلد بعد ونعني بها تحلية مياه البحر بكميات صالحة للزراعة. 

تحرص الحكومة على اقتصاد الموائد المائية الجوفية السطحية منها والعميقة وتمنع حفر الآبار بشكل غير قانوني وهي وراء الفلاحين تطاردهم والفلاحون يحفرون الآبار في الليل على ضوء الكشافات فتعجز الحكومة عن الردم وتشتبك مع مزارعين لم يعد لديهم ما يخسرونه وهو يرون مزروعاتهم تجف ويرون قطعانهم تموت من نقص العلف خاصة منها الأبقار منتجة الحليب والأغنام مصدر اللحوم الحمراء المفضلة لدى التونسيين. لا يمكن اقتصاد المياه في بلد زراعي والحكومة تتأخر في إيجاد الحلول وتصرف عام جهدها لتدليل قطاع السياحة ورجالاته وهم طبقة من المستثمرين الذين تمتعوا بكل أشكال القروض والإعفاءات وأسقاط الديون بما ذلك كلفة الكهرباء والمياه المستهلكة في النزل وفي كل أزمة يعيشها القطاع يسارع لوبي السياحة إلى الضغط المنظم الذي يفتقده الفلاحون فتنحى الحكومة و تتنازل فيغنمون ويشترطون كما تشترط زوجة شابة مدللة على زوجها العجوز 

حكومة ولا حلول 

تتوالى الحكومات على تونس بعد الثورة وقبلها وعيب الاقتصاد التونسي المتخلي عن الزراعة واضح جلي بينما الحلول غائبة أو تكاد إلا ذرّا للرماد على العيون. قناعة ثابتة عند أغلب الخبراء على الميدان. تونس بلد زراعي أولا وخدماتي ثانيا وليس له من مصير إلا أن يعيش من إنتاج غذائه بنفسه فهو ليس بلدا منتجا للطاقة مثل بلدان الخليج فلا يمكنه بحال أن يعيش من التوريد. مصير سكانه مرتبط بزراعة الأرض ولفلاحيه خبرة متراكمة عبر الزمن أين منها خبرة المدارس النظرية في الزراعة. الإمكانيات موجودة في الأرض حيث أن تونس تستغل خمسة ملايين هكتار من عشرة ممكنة والبشر راكم الخبرة بما يكفي لكي ينجح والسوق حاضرة لاستيعاب المنتوج واحتمال التصدير النوعي ممكن جدا (فالكوتا المخصصة لتونس في بلدان السوق الأوروبية غير مستوفاة من المصدر (أي أن تونس لا تصدر كل ما هو مطلوب منها للسوق الأروبية) فضلا عن السوق الليبية التي لا تنتج غذائها حتى قبل ثورة 17 فبراير وتعتمد كثيرا على المنتوج الزراعي التونسي (الخضر والغلال خاصة)وكذلك غرب الجزائر الذي وصل به الأمر إلى التوريد العشوائي من تونس لخضر مثل الثوم والبصل. 

تقوم الحكومات بمنع التصدير لحفظ حاجة السوق التونسية والضغط على الأسعار ثم توجه المياه إلى السياحة لتوريد النقد الأجنبي وتعلن أنها صاحية ويكتب كتابها الكبار أن تونس سكرانة ليغطوا على سكر الحكومة المتعتعة بخطة تنموية لا علاقة لها بحاجة البلد بل بحاجة السائح الأوربي إلى منتجع ترفيهي قريب وغير مكلف ولو كان ذلك على حساب غذاء التونسي البسيط إلى الثوم والبصل ولتر الحليب لأطفاله. 

نعم يمكننا السخرية من الخطة الأولى التي وضعها اقتصادي عبقري فغير مصير البلد من بلد زراعي إلى بلد سياحي يعيش من فضلة مصروف المواطن الأوروبي اذا انخفضت أسعار الطاقة (عندما يفوق برميل النفط 50 دولارا يفرغ النزل التونسي من السياح لأن السائح يعجز عن الادخار في أوروبا) هذه الخطة هي التي مولت كتّابا يرون الشعب سكرانا والحكومة صاحية فيسمون ذلك "علم البهمولوجيا" ويحصلون على الجوائز الأدبية في مهرجان الكتاب. 

ليس لدي حل للمزارعين سأنتظر أن تصحو الحكومة من سكرها وفي الأثناء سأنظر حال الفلاحين يسرقون الماء من مجردة لري البطاطا التي تصلح مزة لكتاب تونس إذا سكروا بخمر رخيصة فخمورنا الجيدة تباع تحت علامة بوردو الفرنسية ولا يشم ريحها كتاب البهمولوجيا الثقافية. 
التعليقات (0)