كتاب عربي 21

تشويه صورة الإسلام بين المسيئين من المسلمين والمتحاملين من الغربيين

عزام التـميمي
1300x600
1300x600
فئة قليلة جدا من الناس في بلاد ما بات يعرف بالغرب يحالفهم الحظ فتقع أعينهم على مشهد من مشاهد الإسلام الجميلة، فتهفو قلوبهم إليه، وترشدهم ألبابهم بهدي من الله إلى اعتناقه. وذلك أن معظم المشاهد التي تُعرض للإسلام في عصر التخلف الحضاري للمسلمين، وما هم فيه من ضعف وهوان، تنفر منه،بل وترعب المتلقين لصوره المشوهة. 

كل من سمعنا عن اعتناقهم الإسلام من الغربيين إنما تحولوا إليه بسبب موقف شهدوه أو حدث كانوا جزءا منه أو تجربة غيرت قناعاتهم، وقلما يكون دخولهم الإسلام فيما نعلم ناجما عن استجابة لدعوة لفظية من "مبشر" أو "داعية"، الأمر الذي يثبت أن الدعوة الحقيقية هي القدوة الحسنة، وأن من أراد أن يجذب الناس إلى رسالة الله الخاتمة فعليه بحسن الخلق والمعاملة النزيهة. 

ولئن تعددت مصادر المشاهد المسيئة للإسلام والمنفرة للرأي العام الغربي منه، إلا أن جلها يصدر عن المسلمين أنفسهم، بينما يصدر بعضها عن هيئات أو أفراد في الغرب يكنون لهذا الدين العداء حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق،أوخشية من نهضة المسلمين المحتملة على مصالحهم ومكاسبهم وعلى ما تحقق لهم من هيمنة ونفوذ. 

من المفارقات المحزنة أن ما تجنيه أيادي المسلمين من إساءات هو الذي يغذي في كثير من الأحيان مشاعر الكراهية والخوف تجاههم وتجاه دينهم لدى الآخرين، وهو ما بات يعرف بالإسلاموفوبيا. ومن المفارقات أيضاً أن سوء سلوك بعض المسلمين يقلب الصورة الجميلة لما عليه دينهم في حقيقته من انسجام مع الفطرة السليمة وحض على المعروف ودعوة إلى الخيرات ونهي عن المنكرات، لتحل محله صور مشوهة، محتواها يناقض قيم الإسلام النبيلة وما يدعو إليه من مكارم الأخلاق. 

ورغم أن إساءات المسلمين لدينهم تأتي من كافة شرائح مجتمعهم، إلا أن الإساءة التي تجنيها أيادي أصحاب النفوذ السياسي والمالي هي الأخطر والأقبح لما لها في العادة من صدى يطول مكثه ويتسع انتشاره. وكان هذا النمط من الإساءة سابقاً على غيره، نظراً لأن الاحتكاك في البداية كان بين أثرياء وحكام المسلمين من جهة ووسائل الإعلام الباحثة عن صيد ثمين تحيك من خلاله القصص المثيرة من جهة أخرى. 

أذكر جيدا أنني في السنة الأولى من وجودي في بريطانيا طالبا شابا دون العشرين من العمر، في منتصف سبعينيات القرن الماضي، كان يهالني ما تنشره بعض الصحف البريطانية من أخبار أثرياء وحكام العرب الذين يتعقبهم الصحفيون إلى نادي بلاي بوي، الذي كان مقره في حي مايفير في العاصمة البريطانية لندن، وينشرون لهم صورا أخذت لهم خلسة مع غانيات حول طاولات القمار وفي الملاهي الليلية، أو وهم يهمون بركوب سياراتهم الفارهة من نوع رولس رويس أو بنتلي المتوقفة أمام فندق دورشيستر في بارك لين، الواقع أيضا في حي مايفير الشهير. ولعل هذا التصيد كان بسبب لجوء العرب إلى استخدام سلاح النفط على إثر حرب عام 1973، الأمر الذي زاد من تكلفة الوقود وأدى إلى رفع أسعار السلع بشكل عام. 

صحيح أن سلاح النفط أثار الغربيين وأغضبهم، وكان له دور في التحريض على العرب والمسلمين، إلا أن سلوك الفاسدين من المتنفذين العرب والمسلمين كان هو السلاح الذي انتقم به هؤلاء الغاضبون من أمتنا.  

كانت صورة ذلك العربي المبذر والمستهتر والمعربد تربط بالإسلام، لترسخ في عقول كثير من المتلقين فرية أن الإسلام بتعاليمه وثقافته هو الذي يجعل هؤلاء يتصرفون بهمجية ورعونة وبذاءة. رغم أن أي دارس للإسلام يعرف أن مثل هذه السلوكيات هي مما ينهى عنه الإسلام، بل ويعتبره من الكبائر والخبائث، ويتوعد مرتكبه بأشد العذاب في الآخرة. فالإسلام يحرم الزنا، وينهى عن شرب الخمر، ويعتبر الميسر بكافة أنواعه من الكبائر، ويقرن الكبر والتبختر بالشرك، والشرك هو الظلم الأعظم. 

في دول الغرب الديمقراطية، والتي تتعامل حكوماتها بكل رحابة صدر مع الحكومات في العالم العربي لما تجنيه من منافع وتحققه من مصالح، ليس أقلها تشغيل مصانع السلاح فيها بتمويل من الأنظمة في دول العالم الثالث (العالم المتخلف)، يقرن عامة الناس تلقائياً بين الإسلام وبين حكام يتوارثون السلطة أو يسطون عليها بقوة السلاح، ولا يخضعون لرقابة أو مساءلة، ويخلصون إلى أن تلك الأنماط السلطوية من الحكم – والتي ناضل الغربيون قرونا للتخلص منها، ولم ينهضوا ولم يتقدموا إلا حينما ثاروا عليها– إنما هي نتاج تعاليم دين متخلف متحجر. ومن ذا الذي يلومهم على مثل هذا الاستنتاج وهم يقرأون في صحفهم ويتلقفون من إذاعاتهم المسموعة والمرئية أخبارا عن انتهاكات بشعة لأبسط حقوق الإنسان، وعن وجود سجون ومعتقلات معظم من يغيبون وراء القضبان في زنازينها هم من أصحاب الفكر والرأي ممن يخشى السلطان أثرهم في توعية الجماهير، ويرعبه ما يبذلونه من جهد في كشف الخبث المستشري بسبب الظلم والفساد. والمصيبة الكبرى أن معظم هؤلاء الظلمة يدعون أن الإسلام هو مرجعهم، وتنص دساتيرهم على أن دين الدولة هو الإسلام وأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأول للتشريع. 

كم يظلم هؤلاء المستبدون الإسلام، إذ يبثون عبر العالم له صوراً مشوهة، منفرة للناس منه، رغم أن شريعته سبقت كل الشرائع في إقرار مبادئ سيادة القانون والمساواة بين الناس أمام القانون، واعتبرت الحاكم خادماً عند الشعب لا سيداً عليهم، ناهيك عن أن يكون مالكاً لهم متحكماً بمصائرهم مستأثراً بثروات بلادهم، وأخضعت الحكام للرقابة والمساءلة: "فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته"، "أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم"، "إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني"، ونصت على أن الأمة، قبل الشريعة، هي مصدر شرعية الحاكم، وأرست مبدأ الشورى، تاركة للأمة الحرية في تطوير آلياتها وكيفية تفعليها. 

بل يتحمل الطغاة في العالم الإسلامي، بما أوجدوه من أوضاع غير سوية، وما بثوه في نفوس الناس من يأس وإحباط، جزءاً كبيراً من المسؤولية عن كثير من مظاهر الغلو والتطرف التي تسيء بدورها إلى الإسلام وتساهم أيما مساهمة في تشويه صورته وتنفير الناس منه. بل وتتحمل الأنظمة الدكتاتورية المسؤولية عن نشأة الجماعات الإقصائية التكفيرية، وعن تولد المجموعات الممارسة للعنف والإرهاب، لأن منشأ هذه المظاهر المرضية إنما مرجعه إلى الخلل الذي أصاب المجتمعات والأفراد بسبب الجور والقهر والفساد. وقد أشارت إلى ذلك بوضوح منظمة الشفافية الدولية في تقريرها الأخير، حيث أكدت أن القضاء على ظاهرة الإرهاب، وبالذات على تنظيم داعش، لن يتحقق إلا بمعالجة الأسباب التي أفرزتها، وعلى رأسها الفساد بكافة أشكاله. 

ما من شك في أن الأنظمة الغربية نفسها تتحمل أيضاً قدراً من المسؤولية عن هذه المظاهر الشاذة، لأن كثيراً من سياساتها في التعامل مع المسلمين دفعت بأعداد متزايدة من الشباب المسلم إلى حضن التنظيمات المتطرفة، بعد أن يئسوا من الإصلاح بأدوات سلمية،وكفروا بالديمقراطية، وفقدوا الأمل، كل الأمل، في حكوماتهم بل وفي مجتمعاتهم. وأكثر ما يحرض هذا الشباب المحبط على سلوك مناهج الغلو ما يراه من تغول القوى الغربية وعدوانها على بلاد المسلمين، وما يشهده من دعمها غير المشروط للكيان الصهيوني، وما يلمسه من نفاق وازدواجية في المعايير لدى أنظمة ومجتمعات تمارس الديمقراطية وتحترم حقوق الإنسان في بلدانها ولكنها تبرر بل وتشرعن الدكتاتورية والظلم والقهر والفساد في بلدان الآخرين. نرى في بريطانيا على سبيل المثال لا الحصر ممارسة لا بأس بها لمبادئ سيادة القانون والمساواة أمام القانون، ونرى انتخابات دورية، ونشهد المساءلة والمحاسبة التي تطيح بوزراء أو حتى رؤساء حكومات في بعض الأحيان، ناهيك عن مسؤولي القطاع العام وحتى الخاص ممن ينتهكون النظم والقوانين، ولكننا نشهد في نفس الوقت صمتاً، بل وإقراراً، عندما يتعلق الأمر بما يرتكب من مظالم في بلدان العالم الإسلامي يبرر باسم الحرص على المصالح وباسم إبقاء عجلة الاقتصاد دائرة لضمان الاستقرار والرخاء في بلاد الإنجليز. 

تأتي في المرتبة الثانية بعد الأثرياء والمتنفذين جموع من جهلاء المسلمين الذين يسيئون لدينهم وأمتهم. كثيرون ممن استوطنوا بلاد الغرب من المسلمين جيء بهم أصلاً إلى مدن الغرب الصناعية بعد الحرب العالمية الثانية ليسدوا النقص في الأيدي العاملة بسبب ما منيت به البلدان الغربية من خسارات بشرية هائلة جراء الحروب. فبريطانيا شهدت تدفق أعداد كبيرة من أبناء القارة الهندية وكذلك من أبناء بعض نواحي اليمن والصومال، بينما شهدت فرنسا وهولندا وبلجيكا تدفق أعداد كبيرة من أبناء شمال أفريقيا والمغرب العربي، في حين فتحت ألمانيا أبوابها للعمالة التركية بشكل أساسي. 

كثير من هؤلاء المسلمين كانوا بئس السفراء لدينهم وأوطانهم، فحظ معظمهم من التعلم محدود، وكان سلوك غالبيتهم محكوم بعادات وتقاليد بالية سادت مجتمعاتهم الأصلية في زمن التخلف، أكثر مما هو محكوم بتعاليم الإسلام. ونظراً لشح العلم الديني بينهم، عمدوا بعد أن أقاموا في تجمعاتهم مساجد ومصليات إلى استيراد الأئمة من بلدانهم التي جاءوا منها أصلاً، وكان هؤلاء الأئمة بالمجمل ذوي مستويات متدنية من العلم، وتنقصهم الدراية بشؤون الأمم الأخرى، وخاصة تلك التي وفدوا ليقدموا خدماتهم فيها، ومعظمهم لم يكونوا يتقنون لغة البلاد التي جاءوا إليها. 

تلك كانت الموجة الأولى من الوافدين من بلاد الإسلام إلى بلدان أوروبا الغربية. ثم بدأت منذ منتصف ستينيات القرن الماضي تتقاطر على هذه البلدان أعداد من طلاب العلم وطلاب اللجوء، ومع مرور الأيام زادت أعدادهم حتى باتت أمواجاً هادرة في بعض الأحيان بسبب أزمات السياسة وكوارث الحروب والنزاعات التي حلت ببعض بلاد المسلمين مثل لبنان وإيران وسوريا والعراق وليبيا ثم الصومال. وتصادفت هذه الموجات التي تصاعدت منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين مع نضوج الجيل الثاني من أبناء المهاجرين الأوائل الذين شهدت جامعات بريطانيا أعداداً متزايدة منهم، باتت لها الغلبة العددية بين الطلاب المسلمين بعد أن كانت الغالبية العظمى من قبل هي للطلاب الوافدين من الخارج. 

وبذلك لم يعد احتكاك المجتمعات الغربية بالإسلام والمسلمين مقتصراً على ما يرد في وسائل الإعلام من تقارير ومن حكايات مثيرة حول سلوك أصحاب النفوذ والمال في فنادق وملاهي ومقاهي لندن وباريس أو على ما تقدمه أفلام هوليوود من روايات تنال من الإسلام والمسلمين وتشوه تاريخهم وتحرف معتقدهم. 

صار الغربيون يرون المسلمين في شوارعهم ويجاورونهم في أحيائهم ويتعاملون معهم مباشرة في متاجرهم ودوائرهم. ويوماً بعد يوم أصبح الإسلام مظهراً شائعاً وشأناً محلياً، وبات المسلمون بكل تنوعهم وتعدد خلفياتهم وأعراقهم وثقافاتهم مكوناً مهماً من مكونات المجتمعات الغربية، وخاصة في العواصم وفي المدن الكبرى. بمعنى آخر، أصبح احتكاك الناس بالمسلمين يومياً، وصار هذا الاحتكاك مصدراً من مصادر المعرفة لدى العامة حول دين المسلمين وثقافتهم. 

شهدت سبعينيات إلى أواخر تسعينيات القرن الماضي حراكاً طلابياً ومجتمعياً نشطاً في أوساط الجاليات المسلمة في الغرب وتفاعلاً إيجابياً مع مجتمعاتها، مما كان له أطيب الأثر في تحسين صورة الإسلام ونشر رسالته بين الناس، وشكل درعاً غير مسبوق في درء الهجمات ودحض الشبهات. كما شهدت أعوام ما قبل الألفية الجديدة حراكاً نشطاً باتجاه الاندماج والمشاركة السياسية بفضل جيل جديد من أبناء المسلمين الذين تخرجوا من الجامعات الغربية وانخرطوا في الحياة العامة بكافة أشكالها ومستوياتها. ولم يكن ينفصل عن هذا الحراك ذلك الجهد المتميز الذي بذله المسلمون في أماكن تواجدهم للتضامن مع قضايا أمتهم حول العالم من فلسطين إلى أفغانستان ومن الصومال إلى البوسنة والشيشان، ونشأت جمعيات ومؤسسات متخصصة تفاعلت مع الأحداث وتواصلت مع وسائل الإعلام وصناع القرار والرأي، مبرزة الجانب الإنساني المضيء من حضارة المسلمين، ومبشرة بعالم يسوده التسامح والتفاهم والتعاون بين الحضارات والثقافات. واستفاد المسلمون في الغرب أيما فائدة من مناخ الحرية والأمن والأمان، ومن تمتعهم كغيرهم بحماية القانون، الأمر الذي يسر لهم القيام بأنشطة فكرية وسياسية لم تكن تسمح أوضاع معظم أقطار العرب والمسلمين إلا بالنزر اليسير منها. وكان المسلمون يغبطون أنفسهم على هذا الحال إلى أن وقعت الطامة الكبرى بشن هجمات الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة الأمريكية على يد مجموعة من مجندي تنظيم القاعدة، بحجة الرد على جرائم أمريكا في بلاد المسلمين، فكانت نتائجها مدمرة وعواقبها وخيمة، ولم يقتصر ذلك على توفير المبرر الذي كان ينتظره المحافظون الجدد لغزو بلدين مسلمين هما أفغانستان والعراق، بل وأجج نيران الحقد والكراهية ضد المسلمين من جديد وجرأ على الإسلام وأهله أراذل الناس في كل مكان، وأعمل معاول الهدم في صروح شيدها المسلمون في الغرب عبر عقود من الجهد والمجاهدة والبذل والعطاء. 

وكان من إفرازات الحرب التي أعلنتها أمريكا وحلفاؤها على الإرهاب توليد مزيد من الإرهاب، والدفع بأعداد متزايدة من الشباب نحو أحضان القاعدة وأخواتها، ومنهم عدد لا بأس به ممن ولدوا أو نشأوا في الغرب، شحنوا بالكراهية وضللوا بأفكار واهية، وكان هؤلاء أكثر من غيرهم وقوداً سريع الاشتعال، ومادة دسمة لحملات متجددة من الكراهية والتخويف شنتها وسائل الإعلام ومراكز الدراسة والتفكير في أنحاء العالم الغربي. 

وما أن أزفت العشرية الأولى من الألفية الجديدة على الأفول حتى بدت تلوح في الأفق مؤشرات فجر جديد، أطلق عليه المعلقون والمحللون في وسائل الإعلام الغربية اسم "الربيع العربي". كان الحراك الشعبي للربيع العربي الذي انطلق من تونس مروراً بالقاهرة ودمشق ليصل إلى صنعاء بعد أن عرج على بنغازي نضالاً سلمياً من أجل كرامة الإنسان وفي سبيل الانعتاق من أغلال الذل والاستبداد، فكان وقعه في نفوس الناس حول العالم مهيباً، تبدلت بسببه فجأة صورة العربي في أذهان الناس، من شمال أمريكا إلى أستراليا ومن سيبيريا إلى جنوب أفريقيا، فصار يضرب بأمة العرب الثائرة المثل وينظر إلى أبنائها وبناتها المعتصمين في ميادين عواصمهم ومدنهم، وفي أحياء بلداتهم وقراهم، بإعجاب وإكبار منقطع النظير. ولقد شهدت بنفسي تجمعات صغيرة أقامها مواطنون غربيون في أكثر من مدينة في أوروبا تضامناً مع ثورات الربيع العربي، التي ذكرتهم بثورات شهدتها من قبل بلدانهم، شكلت بحق تحولات تاريخية حررت مجتمعاتهم من الاستبداد، وأرست قواعد الحكم الديمقراطي، وأعلت شأن حقوق الإنسان وكرامته. 

لكن سرعان ما عاجلت الثورة المضادة ربيع العرب بضربة قاصمة قاضية، فحولت بلدانهم إلى بؤر صراع دموي أهلك الحرث والنسل، وخرجت من تحت أنقاضه جماعة أطلقت على نفسها "الدولة الإسلامية"، لا هي دولة ولا هي إسلامية، كانت على المسلمين أشد وطأة وأعظم وبالاً من "القاعدة"، أمها التي خرجت من رحمها، لا تؤمن بسلمية، ولا تعترف بتعايش، ولا تتساهل مع مخالف، وتعتبر الديمقراطية كفرا بواحا يستحق من آمن به قطع الرقاب أو الحرق حياً أمام الكاميرات. نشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي صور جرائمها المروعة، فكانت كل صورة من هذه الصور طعنة فتاكة في جسد الأمة الإسلامية. ومن المؤسف أنها تمكنت بسبب خطابها وأفعالها على حد سواء من حشد أعداد كبيرة من الفتيان والفتيات المغرر بهم، ممن لا حظ لهم من علم شرعي أو فهم سياسي، انهالوا من كل حدب وصوب يحركهم شعور عارم بالغضب، سرعان ما شكلوا وقود النيران التي ذهبت "داعش" تشعلها في كل مكان. 

لو لم تنقض الثورة المضادة على عملية التحول الديمقراطي وتجهضها في شهورها الأولى لربما رأينا تطور نماذج ديمقراطية فريدة من نوعها، حيث يحدث تزاوج بين قيم الإسلام وثقافة المجتمعات المحلية وبين الآليات الديمقراطية المتعارف عليها، ومنها: الانتخابات، وسيادة القانون، والمساواة أمام القانون، والخضوع للأغلبية مقابل ضمانات بصيانة حقوقا لأقليات، والفصل بين السلطات، والحيلولة دون تنفذ كيانات في المجتمع لا تخضع لسلطة المجالس المنتخبة مباشرة من قبل الشعب. لو قدر لذلك التطور أن يتم، لصرنا تارة أخرى مهوى الأفئدة، ومنارة لمن يجد في البحث عن سبيل لحل مشكلات البشرية. ولماشهدناحالةالفوضىوممارسةالعنفوانتشارظاهرةالإرهابفيالمنطقةالعربيةوحولالعالم. 

إلاأن هناك من لا يريد للديمقراطية أن تنجح في عالمنا العربي، وبذلك حرمه من الاستقرار والأمان، وهؤلاء هم الذين يتحملون المسؤولية كاملة عما آلت إليه الأوضاع، ويأتي في مقدمة هؤلاء الطغاة والمستبدون، ومن يحالفهم في الغرب، والكيان الصهيوني الذي يعرف زعماؤه أن حرية الشعوب العربية هي الخطوة الأولى نحو تحرير فلسطين من الصهاينة. 

ولذلك فإنما نحن فيه من اضطراب واحتراب لا حل له سوى الانتصار للديمقراطية والوقوف صفا واحدا في وجه من تآمروا عليها، وشحذ همم الشعوب لتنهض من جديد تدافع عن حقوقها وتستعيد كرامتها.
 وهذه هيالضمانة الوحيدة لتجفيف منابع الإرهاب، الذي تفجرت عيونه في كل مكان بسبب القهر والظلم والفساد وما نجم عن ذلك من شعور باليأس والإحباط، وهو الإرهاب الذي بات يربط عنوة بالإسلام وأهله، ظلما وعدوانا. 

وفي نفس الوقت، لابد من التأكيد على أن اللجوء إلى العنف إنما يزيد من حالة الارتباك، ويسهل على الأنظمة الطاغوتية التغول في استخدام البطش لمقاومة كل معارض، سواء لجأ إلى العنف أو التزم السلمية. وليس أدل على ذلك من أن التطرف والاستبداد وجهان لعملة واحدة. فالتطرف، وخاصة ما ينزلق منه في العنف، هو رد فعل على الاستبداد، بينما المستبدون يلجأون إلى تبرير بطشهم باسم مكافحة الإرهاب والتطرف. إنهاحلقة مفرغة في غاية البشاعة.
5
التعليقات (5)
الجمعة، 08-09-2023 11:48 ص
الإسلام شامخ ولا يضره كيد الكائدي
بشير بلاح
السبت، 08-01-2022 08:22 ص
جعله الله في ميزان حسناتكم
aboahmedmansour
الأحد، 26-03-2017 11:34 م
جزاك الله خيرا .. ربنا ينفع بك امتك المحتاجة لمثل الافكار الخادمة والتحلبلات الصادقة للموضوعات ..
MARZAK MHAMMED AZIZ - MAROC
السبت، 25-03-2017 08:54 م
Excellent