كتاب عربي 21

يا ليت قومي يعلمون!

طارق أوشن
1300x600
1300x600
فيلم (وجها لوجه - 2003) للمخرج المغربي عبد القادر لقطع.

بعد أن أثنى على التقرير الذي أنجزه المهندس الشاب كمال بخصوص التجاوزات التي شابت تغيير مكان تشييد السد المائي (سد الخير)، "يكافئ" مدير الإدارة ذات المهندس ويكلفه بالإشراف على بناء سد جديد بمنطقة تافيلالت النائية بما يعنيه ذلك من إبعاد له عن الإدارة المركزية في انتظار لملمة الموضوع. وبينما يهم كمال بالخروج من مكتب المدير، يرفع الأخير السماعة ويتحدث إلى الوزير المكلف بالقطاع.

المدير: احتراماتي سيدي.. ما لا أستسيغه سيدي هو كيف تُرك هذا الشاب يترقى حتى وصل لهذا المنصب بينما كان أخوه سجينا سياسيا سابقا.. أقوم بكل ما أستطيع فعله سيدي.. من؟ زوجته؟ إن كنت تراها الوسيلة الأنجع فليكن.. احتراماتي سيدي.

كان الهدف من تغيير مكان تشييد السد إرضاء مافيات القطاع الفلاحي الساعية للاستفادة من مياه السقي لضيعاتها الشاسعة ولو على حساب التنمية المتوازنة لمختلف الجهات. ولأن كمال اكتشف الموضوع فقد كان تكليفه بمهمة أكبر، على المستوى الظاهري، عقوبة إدارية انتهت بتنقيله بعيدا عن العاصمة وفبركة قضية أخلاقية لزوجته قبل اغتصابها في مركز الشرطة وانتهاء بتدبير حادثة سير أفقدت المهندس الشاب ذاكرته وأنهت موضوع الفساد الإداري بصفة نهائية في غياب الشهود.

في السنوات السابقة لحالة كمال، كان رد فعل السلطة تجاه النشاط السياسي لأخيه الاعتقال والسجن. ولأن الظروف تغيرت، أو هكذا نظن، فقد كان التعامل معه تنقيلا تعسفيا وتدبير حادث سير. تلك كانت طرق الدولة المغربية في مواجهة الأصوات المزعجة طوال "سنوات الرصاص" وما تلاها. وكان مبشرا أن ملف الانتهاكات الجسيمة انتهى إلى تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة بما مثلته من فرصة لطي صفحات الماضي وتعويض الضحايا. لكن يبدو أن للدولة، أو طرفا مؤثرا فيها على الأقل، رأي آخر يدعمه توجه دولي لمحاربة "التطرف" و"الإرهاب".

في العام 2017، وفي وقت كانت تتجه فيه الأمور إلى التهدئة بين الدولة وجماعة العدل والإحسان بعد انكفاء الجماعة على ذاتها وهو ما تأكد بفض يدها من تظاهرات ما سمي بحركة 20 فبراير، أبت الدولة المغربية إلا أن تمنح الجماعة "قبلة حياة" تعيدها للساحة كطرف مظلوم ومنتهك الحقوق ربما سعيا لخلط الأوراق بنية تحجيم "المد الإسلامي" بالدولة والمجتمع. ففي ظرف أقل من أسبوعين أقدمت الدولة على إغلاق مجموعة مدارس محمد الفاتح بدعوى استثمارها المجال التعليمي والتربوي مجالا خصبا للترويج لإيديولوجية جماعة غولن التركية ونشر أفكار لا تتوافق والمنظومة التربوية والدينية المغربية، وهي التي ظلت تنشط بالمغرب لأكثر من عقدين من الزمان. جماعة الخدمة لزعيمها غولن مصنفة تركيّاً كجماعة إرهابية وهو ما استدعى ترحيب مولود جاويش أوغلو بالخطوة المغربية التي تؤكد حسبه على التعاون الوطيد بين البلدين. هذا التعاون الذي أثمر في السابق عن منع أعضاء قياديين في جماعة العدل والإحسان من دخول التراب التركي ومنع لقاء دولي عن مؤسس الجماعة عبد السلام ياسين على أراضيها قبل أشهر. وقد لا يختلف التبرير الذي قد تعطيه الدولة المغربية لإقدامها على إعفاء عدد من المنتسبين للجماعة ذاتها من مهامهم الوظيفية بمختلف الإدارات المغربية عن كونهم حولوا أماكن اشتغالهم إلى "مجال خصب للترويج لإيديولوجية الجماعة ونشر أفكار لا تتوافق والمنظومة التربوية والدينية المغربية". لأجل ذلك، كان لزاما الاقتداء بالتجربة التركية ولو اختلفت المسارات والمسببات. سكتت الأحزاب المغربية عن التنديد بما أسمته الجماعة "التضييق الجديد" قبل أن توجه الدعوة لمختلف التيارات السياسية والحقوقية للتعاون من أجل إعلاء قيمة الحرية التي تستحق التوافق رغم الاختلافات التي تصل حد التناقض في أحايين كثيرة. 

حركة التوحيد والإصلاح، الذراع الدعوي المعلن لحزب العدالة والتنمية المغربي، رفعت عنها الحرج وأعلنت في بيان لها   تضامنها مع جماعة العدل والإحسان، معبرة عن انزعاجها ورفضها لتلك الإعفاءات التي اعتبرتها "مسا بالمكتسبات الحقوقية التي عرفتها بلادنا ويضمنها الدستور". ربما استشعرت الحركة من هذا التوجه الرسمي إعلانا عن اقتراب النيران من جلاليبها وهي التي وضعتها وثيقة سرية مسربة من عمالة شفشاون التابعة لوزارة الداخلية في نفس الخانة مع العدل والإحسان والسلفية الجهادية كمنظمات متطرفة أو محظورة. 

في فيلم (ألف شهر – 2003) للمخرج المغربي فوزي بنسعيدي وداخل بيت الجد أحمد، يزور سمير زوجة صديقه المعتقل عبد الكريم وابنها.

سمير: اتهموه بالباطل. طلبت منه مرارا الالتحاق بالحزب والانتظام فيه لكنه ظل يرفض الأمر. إن أمثاله من غير المتحزبين يخيفون الدولة أكثر.

الجد: صحيح. لكن القواعد الحزبية أيضا ينالها نصيب من القمع.

عبد اللطيف اللعبي كان واحدا من هؤلاء الذين اعتقلوا لأنهم اختاروا العمل خارج الحزب الشيوعي المغربي وأسس بمعية ابراهام السرفاتي وآخرون منظمة "إلى الأمام" السرية. وروى فيلم (نصف السماء – 2014) للمخرج المغربي عبد القادر لقطع قصة اعتقاله ومعاناته.

قرع قوي على الباب. يستيقظ عبد اللطيف وزوجته الحامل.

ينظر عبد اللطيف من وراء الستائر.

عبد اللطيف: هاتفي أخي.. يستحسن أن يكون شاهدا.

تتحدث في الهاتف ثم تتجه لغرفة الأبناء وعلى خلفية الصور نسمع الحوار.
عبد اللطيف: من أنتم؟
صوت: بوليس.. تحرك أمامي.

يبدأ رجال الأمن في تفتيش البيت فيما يركز قائدهم على محتويات المكتبة فهي بيت القصيد. يصل شقيق عبد اللطيف.

رجل الأمن: من تكون؟
الشقيق: أخوه

رجل الأمن: سلمني أوراقك الثبوتية... أنت موظف سامي بالدولة ويفترض أن تنأى بنفسك عن هذا الأمر. (يوجه الكلام لعبد اللطيف) تفضل معي..

كانت تهمة عبد اللطيف اللعبي الإشراف على مجلة (أنفاس) التي تحولت من الشأن الثقافي إلى الفكر اليساري الجذري، والنتيجة حفلات تعذيب لانتزاع الاعترافات وعشر سنوات سجنا.
وفي فيلم (دموع ابليس - 2016) للمخرج المغربي هشام الجباري يلقى المدرس حسن الشاهد نفس المصير.

داخل فصل دراسي.. على السبورة نقرأ تاريخ اليوم: الجمعة 3 أبريل 1981.
يهم حسن الشاهد ليخط على اللوح الأسود كلمة: الحرية.
لم يمهله رجلا أمن بزي مدني ليشرح المعنى لتلامذته، فقد أخرجوه عنوة من الفصل
رجل الأمن: هيا.. تحرك..

يصرخ التلاميذ لكن الشرطيان تمكنا من إخراج حسن ليختفي بعدها ثماني عشرة سنة كاملة قضى جزءا منها في معتقل سري. سنوات كانت كفيلة بتدمير حياته وحياة أسرته من بعده. وقتها، لم تكن الحركات الإسلامية ترى غضاضة فيما يتعرض له اليسار ومنتسبوه، السريون والعلنيون، بل اعتبرت الأمر تطهيرا للبلد من الأفكار الهدامة التي " لا تتوافق والمنظومة التربوية والدينية المغربية". اليوم، يجلس يساريو الأمس على مقاعد المجالس والهيئات الاستشارية لحقوق الإنسان لكنهم لا يحركون ساكنا أمام تجاوزات السلطة ولو ببلاغات تعد أضعف الإيمان. ينسى هؤلاء أن الدولة التي تعفي "خدامها" الأوفياء كلما صاروا عبئا أماملتوجهاتها الجديدة التي يراد تسويقها كمرحلة انفتاح بشعارات تمتح من مبادئ حقوق الإنسان الكونية، يمكنها التضحية ب"خدام" جدد لا تجمعها بهم غير مصالح نفعية آنية.

جلال المدني، عسكري خدم الدولة لسنوات قبل أن يُطلب منه تقديم استقالته في فيلم (دموع ابليس - 2016).

الوقت ليل. يتفقد جلال المدني بعضا من الميداليات الشرفية التي حازها طوال مساره العسكري ومعها رسالة نقرأ من بين مضامينها: يشرفنا أن نتقدم إليكم بالشكر على المجهودات التي بذلتها دفاعا عن الأمة وشعارها الخالد الله، الوطن، الملك. في الواقع طُلب من الرجل تقديم استقالته ورُمي إلى النسيان.

حسن، واحد من ضحاياه، ظل مسكونا بالرغبة في الانتقام من الجلاد. وبعد رحلة طويلة في جغرافيا الجنوب المغربي يصل الاثنان بمعية عائلة جلال إلى مقبرة على أطراف الصحراء الشرقية دفن فيها العسكري السابق عددا من رفاق حسن المعتقلين. جلال يرفض إلى الآن الاعتراف بأنه الجلاد. لكن رصاصة طائشة تنهي حياة ابنه الصغير أعادته لشخصية الجلاد التي أخفاها عن الزوجة والأبناء طوال سنوات اشتغاله في الجيش.

جلال: تريدني أن اعتذر لك؟ تريدني أن أعتذر؟ (يلقيه أرضا ويبدأ في خنقه أمام أنظار زوجته وابنته) تعذيبكم كان متعة.. متعة.. كنت أنظف البلد من القردة أمثالكم.. تريدني أن أعترف؟ ها أنذا أفعل.. أنت محق إبليس ذكي ولا يمكنه أن يخطأ.. لا أفهم من أين أتيت بهذه الشجاعة؟ كنت جبانا تتبول في سروالك بمجرد سماع صوتي.. من أين جاءتك هذه الرجولة؟ تتهجم على بيتي وتسرق سلاحي وتعذبني أنا وعائلتي وتقتل ابني..

حسن: أنت من قتلت ابنك؟
يضربه بالمسدس على رأسه.

جلال: سأدفنك هنا كما دفنت رفاقك.. كنت أفعل الشيء نفسه طوال ثمانية عشر عاما.. سأدفنك حيا.
يجره أرضا ثم يتوجه إلى زوجته الجالسة غير بعيد لا تصدق ما تسمعه.
جلال: كنت أعذبهم لتحيوا أنتم. كنت أقتلهم ليعيش أبنائي.. كنت دائمة السؤال عن طبيعة عملي.. لقد عرفت الآن.. (يعطيها المسدس) اقتليه.. هيا اقتليه..
الزوجة: كذب..كذب.. حياتي مجرد كذبة كبرى.
وتطلق الرصاص على نفسها.

تغيرت الأساليب لكن الرغبة في إقصاء الأصوات المغردة خارج السرب بقي لازمة لا تتغير في النسق السياسي المغربي. والدولة اليوم تبدو كمن يسعى لخلق أعداء واستثارة أحقاد دفينة بدل العمل بمنطق الاحتواء. استدراج العدل والإحسان للمواجهة لا يمكن أن تبرره الرغبة في الإلهاء بهدف تمرير مشروع ما قد تكون أركانه نضجت لحد استدعاء قيادي يساري سابق يرأس فريق حزب الأصالة والمعاصرة بمجلس المستشارين إلى التلفزيون العمومي للتقليل من شأن الأحزاب الأخرى ورفع سقف الخطاب حد إدخال الملك ومستشاريه في أزمة تشكيل الحكومة التي طال أمدها. كان اللقاء مقابلة مفتوحة في اتجاه واحد تميز فيها المحاوِر بتهيئة الكرات للمحاوَر لتسجيل الأهداف في مرمة العدالة والتنمية ورئيس الحكومة المعين وبقية الفرقاء. 

يا ليت قومي يعلمون أنني أكلت يوم أكل الثور الأبيض.
0
التعليقات (0)