كتاب عربي 21

تونس: الخيال التنموي المفقود

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
منظر رئيس الحكومة في برلين يذكر بمنظر أب ردت عليه ابنته بعد زواجها لعيب خفي في تكوينها، فلا هو يحتمل عودتها، ولا هو قادر على تزويجها ثانية بعد تبين عيوبها. عليه أن يتحمل كلفة إعادة أبناء تونس المهاجرين غير النظاميين التي لا تقف عند أجرة الطائرة، فهذه يبدو أن الألمان كما الإيطاليين من قبلهم يتعجلون دفعها لتخلص من عبء ثقيل، لكن ماذا ستفعل الحكومة للعائدين لكي لا يخربوا عليها هدوءها أو يحرقوا ثانية إلى أوروبا وهم المسجلون فيها غير مرغوبين؟ لماذا تعجز الحكومة عن تشغيلهم؟ قبل ذلك لماذا هاجروا؟ هل من فقر بلدهم أم من فقر حكوماتهم؟

حكومة الشيء المعتاد


هذه الحكومة، كما اللاتي سبقنها بعد الثورة، لم تخرج من منوال التنمية الذي اعتمد قبل الثورة فهي تتصرف في الموجود طبقا لقواعد ثابتة سبق وضعها واتباعها دون خيال عبقري يستفيد من الإمكانيات المتاحة في البلد. 

يقوم هذا المنوال على ربط اقتصاد البلد بالسوق العالمية طبقا لشروطها لا طبقا لحاجة البلد. وضعت أسس هذا المنوال مع بداية السبعينيات وظل يتطور في نفس الخط. مقدما الاستثمار في قطاع الخدمات السريع والتصنيع التابع (المناول مع الشركات الكبرى) لذلك تحتل فيه صناعة السياحة مكانة هامة على حساب الزراعة وعلى حساب التصنيع الثقيل. وإذا كان الاعتذار بضيق السوق المحلية دون التصنيع الثقيل صحيحا وواقعيا خاصة بعد فشل تجربة مماثلة في بلدين كبيرين مثل الجزائر ومصر فإن صناعة السياحة قد حرفت مسار البلد نحو حالة من الانتظارية العاجزة دون التأثير حتى في وكالات السياحة الدولية التي تبتز بلدانا ضعيفة وتفرض شروطها بما جعل مردود القطاع أقل بكثير من الانتظارات المعلقة عليه وافقد الاعتمادات الموجهة له مردودها وخاصة وعلى سبيل المثال لا الحصر توظيف الثروة المائية في خدمة السياحة بما أثر على الزراعة التي تعاني من شح مياه يزداد حدة كل فصل.

هناك قناعة ثابتة ويشترك الكثيرون في الدفاع عنها مفادها أنه لا يمكن فرض منتوج صناعي قادر على المنافسة في واقع لا يحفز البحث العلمي ولا يخصص الاعتمادات اللازمة لتطوير الاختراع والتحديث الصناعي. وفي مناخ العولمة يفقد بلد مثل تونس امتيازاته التنافسية أمام بلدان مثل الصين وكوريا التي تنخفض فيها كلفة اليد العاملة بشكل يحولها إلى أقطاب جاذبة للاستثمارات الصناعية الكبرى. فإذا أضيف إلى ذلك مناخ أعمال فاسد ومكبل ببيروقراطية ثقيلة ومحافظة وفاسدة فإن الأمر يزداد تعقيدا ويجعل تغيير المنوال التنموي التابع أمرا عسيرا. هل يمكن بعد ذلك المراهنة على التصنيع وخاصة منه ذي التشغيلية العالية.

لقد تضررت صناعة النسيج التونسي كمثال للتصنيع الخفيف منذ بداية التسعينيات بعد إلغاء الاتفاقيات متعددة الألياف والتي كانت تمنح تونس كوتا محترمة في تصدير المنتوج إلى بلدان أوربية. فتراجعت تلك الصناعة. واستبدلت بتصنيع آخر مناول بدوره مثل تصنيع مكونات السيارات لكن ذلك لم يخرج عن تقليد ثابت يقوم على العمل الدائم في حالة تبعية لاقتصادات أخرى تملك أن تتحكم في كل شيء عن بعد.

تطوير الزراعة: الخيار المنسي


تونس بلد زراعي هذا هو الاحتمال المتروك لصالح سياسة المناولة الصناعية وصناعة السياحة غير ذات المردود المجزي. يحقق البلد اكتفاء غذائيا في مواد كثيرة رغم ضعف الاستثمار في الزراعة. ولدى تونس إمكانية أن تمول السوق المحلية وأسواق الجوار القريب والسوق العالمية بمنتوجات ذات جودة عالية ونادرة مثل زيت الزيتون والتمور والغلال البيولوجية. وهي تعمل على ذلك لكن بحوافز قليلة وكنوع من التكملة لا كأساس لاقتصاد مستقل قائم بذاته.

إن العودة إلى الاستثمار في الأرض خيار لكنه يقتضي قرارا شجاعا وهو ما افتقدته الحكومات المتتابعة بعد الثورة. يقتضى هذا الخيار إعادة تقدير الثورة المائية الشحيحة وتوجيهها إلى الري لا إلى السياحة التي تسهلك منها الكثير. فتونس تعيش منذ أشهر أزمة مياه حادة نتجت عن سنوات جفاف حاد تتابعت منذ 2012 أثرت على احتياطي المياه وتعمل الحكومات على توفير كوتا المياه الخاصة بالسياحة في مناطق بعيدة نسبيا عن المنابع (مما يكلفها الكثير في نقلها). لقد أثّرت الأزمة المائية الماثلة الآن على ارتفاع الأسعار بشكل مؤلم لذوي المداخيل المحدودة لما فرض من تقسيط على ري زراعة الخضر في مناطق إنتاجها.(يوجد احتكار كبير لمسالك التوزيع من قبل مافيات محترفة ضاعفت المشكل لكنها ليست هي سببه الرئيسي).

لكن تبدو الحكومة الحالية كما سابقاتها عاجزة عن اتخاذ قرار تعديل جذري في اتجاه الاعتماد على الإمكانيات الزراعية للبلد. فقد عرفت سنة 2016 أزمة في ترويج منتوج القوارص الذي وفر صابة (غلة) قياسية لم تجذ منافذ ترويج فاعدم المزارعون منتوجهم، وفي كل سنة يشاهد التونسيون منتجي الحليب يسكبون منتوجهم أمام معامل تصنيع الألبان بالنظر إلى عجزها عن استيعاب كل المنتوج. وفي كل سنة يتجدد الحديث عن أزمة ترويج الزيت التونسي المتفوق نوعيا عن المنتوج الإيطالي والإسباني المنافس وكثير من المنتوج يروج في السوق الأوروبية بلافتات أجنبية فيصل المستهلك الأوروبي بأثمان تعيق انتشاره وفرضه.

ويمكن القول أن المنتوج العلمي التونسي في مجال الأبحاث الزراعية جيد مقارنة خاصة بصناعات متطورة مثل الشرائح الذكية (وهي سوق مغلقة على مخابر متطورة وعالية الكلفة) وهناك الكثير من براءات الاختراع لكنها لم تتحول إلى صناعة زراعية متطورة 

هذا التوصيف يضعفها أمام حكومات تملك خيارات واقعية على الورق لكنها تعجز عن إدارة الدفة تجاهها وتصر على السير في طرق سالكة رغم معرفتها بالنتائج المتواضعة لخياراتها وخاصة في المجال الذي تعاني منه بشدة هو مجال التشغيل. لذلك يظهر رئيس الحكومة عاجزا عن رفض الأمر الألماني باستعادة أبنائه الذين هاجروا من فقر وقلة حيلة لا من عجز عن العمل في بلدهم الأم.

الخيارات المصيرية تتطلب قرارات صعبة وشجاعة

قد يبدو الحديث مريحا وسهلا للجالس أمام حاسوبه يقترح مطمئنا إلى الخيارات النظرية، لكن الخوف من تغيير المنوال من اقتصاد الخدمات إلى اقتصاد يعتمد على إمكانيته الخاصة وخاصة منها الزراعة يؤدي الآن إلى استدامة الصعوبات الهيكلية القديمة التي أفقرت البلد وأعجزته ومهدت للثورة.

إن التأخير في اتخاذ هذه القرارات المصيرية يمكن تفسيره ولكن لا يمكن الصبر عليه لأن الخيار المتبع منذ السبعينات يحطم نفسه بنفسه ويخلق أزمات حادة مثل ارتفاع نسب البطالة. والتفسير السياسي لما يجري هو أن الذين استفادوا من منوال التبعية هم من صنع الحكومة الحالية وهم من يحميها ومن يمنعها أيضا من التراجع إلى خيارات شعبية تكون الزراعة ذات التشغيلية العالية محورها. وسيواصل هؤلاء ابتزاز الحكومات بمواقعهم وثرواتهم ويمنعونها من مراجعة خيالها وخياراها التنموية.

هل يمكن كسر شوكة هذه الفئة الاجتماعية والحد من نفوذها في تشكيل مستقبل البلد؟ إن هذا قدر يجب التسليم له بخلق بدائل تنموية تقوم على الاستثمار في الزراعة وتوجيه سياسة الاقتصادية برمتها إلى ذلك لإنقاذ البلد بصفة فعالة 

فسياسة تشجيع الاستثمار يمكنها أن تصب في دعم الفلاح الصغير والمتوسط والإشراف العلمي والعملي على تطوير المؤسسة الفلاحية الصغرى والمتوسطة. والسياسة التجارية تعمل بالتوازي على فتح الأسواق الاستهلاكية لمنتوج زراعي متميز في أوروبا والخليج وآسيا وأفريقيا. (الحكومة تعمل كمندوب مبيعات لما ينتجه الفلاح التونسي وهو ليس بدعة في عالم الاقتصاد اليوم).

في خلاف ذلك، ستظل الحكومة الحالية تعاني مثل من ستلحق بها في معالجة عيب هيكلي هو أن اقتصاد الخدمات والمناولة عاجز عن التشغيل، لقد تحدثت عن خيال تنموي مفقود، إنه الخيال المطلوب لوضع خطط طويلة المدى تكون الأرض والفلاح محورها، وفي خلاف ذلك، وفي غياب موارد طاقية كبيرة وتصرف شفاف في المتاح منها، قد يدعى رئيس الحكومة أو رئيس الدولة مرة أخرى ليؤمر باستعادة أبنائه المهاجرين الذي يضيق عنهم صدر اقتصاد الأوربي.
0
التعليقات (0)