قضايا وآراء

المواجهة بين شكل الديمقراطية وروحها

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600
في ظاهرة غير مسبوقة، يتظاهر مئات آلاف الأمريكيين ضد رئيسهم ولما تنقض بضعة أيام على توليه الرئاسة، وتتوجه التظاهرات إلى المطارات في محاولة لكسر قرار حظر دخول اللاجئين. 

هذه الاحتجاجات تكتسب أهميتها ليست من كميتها وحسب بل من نوعيتها، فقد نزل جون كيري للتظاهر في اليوم الأول بعد مغادرته منصبه وزيرا للخارجية، وقررت القاضية الأمريكية آن دونلي تعليق الأمر التنفيذي الصادر عن الرئيس ترامب بحظر دخول مواطني سبع دول إلى الولايات المتحدة، كذلك أعلن المدعي العام لولاية واشنطن بوب فيرغسون رفع دعوى قضائية على الرئيس دونالد ترامب على خلفية قرار الحظر، وفي مزيد من الدلائل على بداية غير مستقرة لحكم ترامب أقال كلا من وزيرة العدل و مسئول وكالة الهجرة بسبب رفضهما تطبيق قراراته التنفيذية المتعلقة بالمهاجرين.

 أما وزيرة الخارجية في عهد كلنتون مادلين أولبرايت فقد أعلنت أنها ستسجل نفسها مسلمة تضامنا مع المسلمين، وهو ذات الموقف الذي أعلنته الناشطة الحقوقية غلوريا ستانيم التي ذكرت ترامب بأن الدستور لا يبدأ بجملة "أنا الرئيس" بل يبدأ ب "نحن الشعب" في رسالة مفادها أن شرعية الشعب أقوى وأبقى من شعبية الرئيس.

في أي سياق نفهم هذا الحراك الاجتماعي المتصاعد في أمريكا؟

لقد وصل ترامب إلى السلطة عبر صندوق الاقتراع وهو بذلك يكتسب شرعية قانونية، لكن المحتجين يكتسبون شرعية أخلاقية يستمدونها من القيم الإنسانية التي يدافعون عنها، وهي شرعية أرسخ حضورا إذ إنها تمثل المبادئ الضرورية للحفاظ على نظام مستقر يؤمن بقيم الحرية والعدالة والمساواة، أما الانتخابات فهي تفويض زمني مؤقت للرئيس بتطبيق برنامجه الانتخابي دون أن يعطيه هذا التفويض صلاحيات مطلقة بالانقلاب على المبادئ التي جاءت به. 

الديمقراطية ليست صندوق اقتراع وحسب، بل هي قبل ذلك وعي اجتماعي وقيم حقوقية. الشرعية الانتخابية يداخلها أوجه نقص عديدة، فالناخب يتأثر قراره بعوامل انفعالية وتقلبات مزاجية، وقد ينتخب فضولا أو انتقاما من العهد السابق أو انفعالا بحدث مفاجئ أو تحت تأثير ماكينة الضخ الإعلامي أو بفعل تدخل رأس المال في توجيه اختياره أو في ظل غياب معلومات صحيحة وكافية تمكنه من اتخاذ القرار الصحيح أو في ظل محدودية الخيارات التي لا تتجاوز غالبا المرشحين الاثنين، وهو ما لا يتناسب مع حجم التنوع الاجتماعي؛ كل هذه الاعتبارات تثبت أن الانتخابات جزء من الديمقراطية لكنها ليست كل الديمقراطية، فإذا ما جرت المقارنة بين صندوق الاقتراع أو الاستيلاء على السلطة بالقوة فإن الخيار لصندوق الاقتراع دون تردد مهما اعتراه من أوجه نقص وإن أفضى إلى اختيار شخصيات مثل ترامب أو هتلر، فالاختيار الشعبي يقيد الفائز ويضع نصب عينيه مراقبة الجمهور لأن الذي أوصله إلى الحكم يملك قرار إسقاطه أما الذي يأتي إلى الحكم بالقوة فلن يبالي برضا الشعب أو سخطه ولن يزيحه عن موقعه إلا القوة. 

إذا فالمقارنة ليست بين الديمقراطية والاستبداد، بل هي مفاضلة بين درجات الديمقراطية، بين ديمقراطية تكتفي بشرعية الانتخابات ثم يباهي الحزب الفائز معارضيه بأنه أكثر منهم عددا وأعز نفرا، ويظن أن هذه الأكثرية تمنحه تفويضا مطلقا لتقويض قيم التعايش والوئام الاجتماعي و انتهاك المبادئ الأخلاقية و لتأجيج خطاب الكراهية والإقصاء ولمحاصرة كل صوت معارض، وبين ديمقراطية نوعية تؤمن بأن هناك قيما عليا تمثل أسس العقد الاجتماعي وتضمن لكل فرد وجماعة حق التعبير عن نفسها والمشاركة الاجتماعية والسياسية.

الأكثرية العددية لا تعطي شرعية مطلقة لأن الرأي قيمة نوعية لا يتوقف صوابه أو خطأه على جماهيريته، وكل الأفكار الإصلاحية كانت تبدأ بقلة من المؤمنين ثم تكسب الأنصار وتصنع التحول التاريخي، والموقف الأخلاقي يحترم لذاته لذلك يخلد القرآن ذكر مؤمن واحد مجهول الاسم وقف وحيدا في مواجهة المدينة بأسرها لينبهنا إلى أهمية المواقف الفردية: "وجاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُل يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ".

في مقابل عظمة الموقف الفردي إذا استند إلى شرعية الحق فإن الأكثرية العددية لا تشكل ضمانة ضد انحدار الأمم نحو الهاوية، فقد تكون هذه الأكثرية تعبيرا عن انجراف الأمة نحو الجنون و تصاعد النزعات العنصرية والشوفينية فيها كما في مثال هتلر الذي استلم الحكم بطريقة ديمقراطية، لكن شعبيته لم تمنحه ميزة أخلاقية، بل كان مشعلا للحروب والكوارث التي أزهقت نفوس الملايين فأورد قومه النار وبئس الورد المورود. 

الضمانة الحقيقية الحامية للأمم من تغول السلطة ومن تصاعد تيارات الحقد والكراهية هو ترسيخ قيم العدل والتعايش وتقوية المجتمع المدني في مواجهة الدولة، فالمجتمع المدني يعني توزيعا للسلطة يحررها من الاستفراد والاستبداد ويعني رقابة شعبية على أداء السلطات التنفيذية ويعني توسيعا لحضور المجتمع وحيويته ونشاطه وتقليصا لحضور الدولة بما يمنعها من التغول والهيمنة.

هذه الحركة الاحتجاجية في أمريكا تمثل لحظة مواجهة تاريخية بين عنصرية تواري سوأتها بغطاء رقيق من شرعية الصندوق وبين روح الديمقراطية الأصيلة، فإما انتصر جنون ترامب وقاد بلاده والعالم إلى الكراهية والتطرف والحروب على سنة هتلر، وإما أثبت المجتمع الأمريكي أنه أقوى من الرئيس وأن إيمانه بمبادئه أرسخ من كل محاولات الالتفاف والاختطاف .

لقد أخرج ترامب أسوأ ما في أمريكا، فهل يستوي الحراك المناهض له على سوقه ليخرج لنا أجمل ما في أمريكا؟ 
0
التعليقات (0)