عندما شرعت أمريكا بغزو العراق في 20 آذار/ مارس 2003 على خلفية "حرب الإرهاب" كانت روسيا في نفس الوقت تجري استفتاء على الدستور التي قدمته إلى الشيشان وكانت نتيجته محسومة سلفا بالموافقة. حينها قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: إن مسالة وحدة أراضي روسيا، وبمعنى آخر مسألة استقلال الشيشان، قد أقفلت بعد الاستفتاء الذي عبر الشيشانيون من خلاله عن خيارهم السلام على حد قوله، واليوم تقدم روسيا مسودة دستور جديد لسوريا بالتزامن مع عودة أمريكا إلى العراق مع تصاعد حملة "الحرب على الإرهاب". وإذا كانت روسيا بوتين أنجزت مهمتها في الشيشان مع تصاعد اليمين المحافظ لأمريكا جورج بوش فإن روسيا بوتين تسعى لإنهاء مهمتها في سوريا مع تنامي اليمين الشعبوي لأمريكا دونالد ترامب.
لا يختلف الدستور الروسي المقترح في سوريا جوهريا عن الدستور الروسي المنجز في الشيشان، فكلاهما يعيد تعريف هوية الدولة بما يضمن هيمنة روسية مطلقة، حيث تقترح المسودة الروسية منح رئيس الجمهورية صلاحية إعلان الاستفتاء حول المصالح العليا للبلاد وإزالة تعابير تشير إلى عربية الجمهورية السورية وإحلال اسم "الجمهورية السورية" وجعل تغيير حدود الدولة ممكنا عبر الاستفتاء العام، وإزالة أي مادة تشير إلى هوية الدولة الإسلامية تحت ذريعة حماية الأقليات، ويأتي مشروع الدستور المقترح بعد توقيع اتفاقيات بعيدة المدى تضمن تفرد روسيا بسوريا وفي سياق نظرية سوريا المفيدة بعد تدمير حلب والسيطرة عليها كما حدث مع تدمير غروزني كمدينتين شكلتا رمزا للمقاومة والمعارضة في كلا البلدين.
في سياق استغلال واستثمار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الحملة الأمريكية في "الحرب على الإرهاب" وهي حروب وضعت وصممت لتبرير الغزو والاحتلال والهيمنة والسيطرة تتبادل القوى الكبرى المصالح والمنافع والأدوار حيث يتحول "الإرهاب" إلى مسألة ذاتية غير موضوعية قابلة للتفسير والتأويل، فعندما غزت أمريكا العراق قايضت العراق بالشيشان وبعد أن كانت أمريكا ترفض وصف المعارضة الشيشانية بالإرهاب وتعتبرها حركة مقاومة مشروعة بدلت موقفها وأدرجت تلك المعارضة على قائمتها الإرهابوية، وشرّعت الأبواب لتنكيل روسيا بالمعارضة الشيشانية المطالبة بالاستقلال.
تحاول روسيا أن تستنسخ الحل الشيشاني في سوريا على وقع "حرب الإرهاب" رغم الفروقات المعتبرة بين البلدين وصعوبة نجاح ذات الخطوات والتكتيكات في إطار الإستراتيجية الروسية التي تهدف إلى إثبات قدرة روسيا على التدخل العسكري في جوارها البعيد في الشرق الأوسط إلى جانب قدرتها على التدخل العسكري في جوارها القريب في القوقاز وأسيا الوسطى، إذ تساعد هذه التدخلات روسيا على خلق الأوهام بأنها لا تزال قوة عالمية قادرة على فرض أجندتها من خلال استثمار مواردها العسكرية والدبلوماسية.
جاء تدخل روسيا في سوريا في أيلول/ سبتمبر 2015 بعد لقاء أوباما بوتين على هامش اجتماعات الأمم المتحدة وتفاهمات وزراء خارجية البلدين كيري لافروف، حيث تبدلت التوجهات والاتجاهات بمزيج من العمل العسكري والدبلوماسي حين جلب الرئيس الأسد إلى موسكو بزيارة مفاجئة في منتصف تشرين الأول/أكتوبر وفي وقت لاحق من الشهر نفسه التقى وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف مع وزير الخارجية الأمريكية جون كيري، فضلاً عن وزراء خارجية المملكة العربية السعودية والأردن وتركيا وإيران في فيينا. وبعد ذلك اجتمع ممثلون عن 19 دولة في نفس المدينة، بناء على طلب روسيا، لمناقشة حل سياسي لمستقبل سوريا، وأعقب ذلك مجموعة أخرى من المحادثات في 14 تشرين الثاني/نوفمبر مما أدى إلى صفقة طَموحة لم تكتمل آنذاك وباتت ناجزة في أستانة.
على خطى الشيشان عمل بوتين في سوريا عبر محطات عديدة وآخرها الأستانة على حشد تأييد دولي للحصول على دعم وتأييد الإستراتيجية الروسية التي تهدف إلى تحويل الثورة السورية من أزمة إلى عملية لمكافحة الإرهاب، فاتفاق 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2015 كان عبارة عن "خطة سلام" من ثماني نقاط وزعتها روسيا في الأمم المتحدة قبل المحادثات، وتنطوي على صياغة دستور جديد مع مراعاة المدخلات التي ستقدمها جماعات المعارضة وتنظيم انتخابات رئاسية بحلول عام 2017، الأمر الذي سوف يقدم في مؤتمر أستانة في 23 كانون الثاني/يناير 2017.
في محطة أستانة تموضعت الثورة السورية في سياق الإستراتيجية الروسية للحرب على الإرهاب، وهذه المرة لم تقتصر على مشاركة دولية بل قوى كانت تعد ثورية حيث تكون وفد المعارضة السورية من ممثلين عن 14 فصيلاً عسكرياً هي: "فيلق الشام" و"جيش العزة" و"جيش الإسلام" و"صقور الشام" و"جيش إدلب الحر" و"جيش النصر" و"شهداء الإسلام" و"الفرقة الساحلية الأولى" و"صقور الشام" و"الجبهة الشامية" و"تجمع فاستقم" و"لواء السلطان مراد" و"الجبهة الشامية" و"الجبهة الجنوبية" (تجمع فصائل الجيش الحر في الجنوب السوري)، إلى جانب مستشار سياسي وحقوق، وقد جاء البيان الختامي لأستانة ليؤكد على أن "تعيد الوفود المشاركة تأكيد إصرار الجميع على القتال ضد تنظيم "داعش" و"النصرة" على أن يجري فصل مجموعات المعارضة المسلحة منها.
على خطى الشيشان تمضي سوريا فالإستراتيجية الروسية لبوتين تمكنت من تحويل المقاومة والثورة إلى تكتيكات "حرب الإرهاب" حيث تصبح الشيشان نموذجا ناجحا في تحويل الثورة إلى حرب على الإرهاب، كما صرح رئيس الوزراء ديمتري ميدفيديف في وقت سابق أن الشيشان تشكل "نموذجا فريدا في تاريخ مكافحة الإرهاب"، وهو نموذج استنسخ في سوريا واستند في الشيشان على قصف وحشي دون تمييز دمرت فيه غروزني بشكل عشوائي أسفر عن مقتل الآلاف من المدنيين وتم إجبار الآلاف على النزوح عن ديارهم وبعدها بدأت روسيا استهداف المعتدلين.
النموذج الشيشاني الناجح في روسي أفضى إلى تبعية الشيشان الكاملة لروسيا،عندما أشرف الكرملين على الانتقال السياسي في غروزني وتم صياغة دستور جديد وتعيين أسرة قاديروف الديكتاتورية في السلطة عن طريق انتخابات رئاسية صورية. لقي أحمد قاديروف، أول قائد اختاره بوتين، مصرعه بقنبلة عام 2004. وحلّ محله ابنه رمضان قاديروف الذي لا يمل من القول بأن رئيس الشيشان وجنود الشيشان جميعهم مستعدون للتضحية من أجل الرئيس بوتين، ومن أجل الدفاع عن روسيا.
بالنسبة لروسيا لا فرق بين قاديروف أو بشاروف وحتى علوشوف فالأهم هو تثبيت النفوذ الروسي في سوريا كما الشيشان بوجود نماذج ترتدي زي حكماء مكافحة الإرهاب على الطريقة الروسية، فالرئيس الشيشاني رمضان قديروف دعا إلى تطبيق النموذج الروسي في الصراع السوري والاقتداء بحملة مكافحة الإرهاب في الشيشان ونصح المعارضة السورية بالتوحد مع جيش الرئيس السوري بشار الأسد، في المعركة المشتركة ضد الإرهاب، وكتب على صفحته على إنستغرام، مذكراً أنه في جمهورية الشيشان، وخلال فترة قصيرة نسبيا من الزمن تم القضاء بالكامل على الإرهابيين الدوليين من 51 بلدا، وقال قديروف "لا يوجد أي بلد آخر، باستثناء روسيا، التي يمكن أن تقضي على بؤر الإرهاب، الذي يهدد سلامة البلاد. وهنا كان يجري نفس الشيء الذي يجري في سوريا".
ما قامت به روسيا في الشيشان يجري على قدم وساق في سوريا من خلال إيجاد معارضة موالية بعد تطهير المعتدلين ثم المتطرفين، فقد عمدت روسيا في الشيشان إلى إستراتجية عسكرية ــ أمنية تقوم على تصفية القيادات الشيشانية جسديا، بدءا بـ"جوهر دوداييف"، ومروراً بـ"زيلمخان يندرباييف"، ووصولا إلى "مسخادوف"، وامتدت إلى القيادات الجهادية كشامل باسييف، أو من المقاتلين الأجانب أمثال: خطاب، وأبي الوليد الغامدي، وأبي حفص الأردني وغيرهم، والبحث عن قاديروف سوري يتماهى مع متطلبات مكافحة الإرهاب الروسية التي تستند إلى رفع كفاءة من الأجهزة الأمنية في الحرب على ما يسمى الإرهاب.
خلاصة القول أن روسيا تعمل على تطبيق نموذج الشيشان في "الحرب على الإرهاب" على سوريا لترسيخ مكانتها كقوة عالمية قادرة على فرض نفوذها العسكري والسياسي في جوارها القريب والبعيد وهي تتبع إستراتيجية أقرت مرتين في عهد بوتين تتعلق بالأمن القومي ومحاربة الإرهاب تعتمد على استخدام مواردها العسكرية والدبلوماسية لحشد تأييد دولي وتستند إلى تكتيكات تعتمد على خلط الاعتدال بالتطرف في الصراعات واستدخال قوى محلية طموحة تتدرج من اعتبارات الثورة والمقاومة إلى مقتضيات مكافحة التمرد وحرب الإرهاب، ورغم الفوارق بين حالة الشيشان وسوريا إلا أن مسارات الصراع السوري وسلوك المعارضة لا يشي بنتائج مغايرة فقد توقفت جبهات القتال مع النظام ومقاومة الاحتلال واشتعلت المعارك بين الفصائل وفق مقتضيات حرب الإرهاب.
1
شارك
التعليقات (1)
مُواكب
الأحد، 29-01-201711:03 م
مصائب أُمتنا كثيرة وخطيرة، ومن الممكن تحديد وجهين لها: أحدهما خارجي يتعلق بتنكيل روسيا بوتين والشيعة بأهل السنة، بتواطؤ أمريكي غربي مكشوف. وفي هذا أتى تحليل الكاتب دقيقا. ويتعلق الآخر بتكويننا الإنساني للفرد الذي يجعل منا " أمةً فاشلة " وهذا الوجه قليلا ما يهتم به مُثقفينا. لم تسقط أمتنا حتى الآن لِأن القرآن الكريم ما زال بيننا يُذكرنا بلغته أننا عرب. لكننا نسير من سوء إلى أسوأ، منذ الأندلس وحتى عاصمة بني أمية. السوء ستكون له نهاية، قد تكون أيضا نهاية الصراعات ، وهذا الخراب المستر. أعتقد أن الله يُقيم أكثر دمعة يذرفها طفل يتألم على كل جهادية القاعدة وداعش. في بدايات الثورة السورية أطلق نظام الأسد سراح من هو اليوم زعيم القاعدة في سورية. فعل ذلك نظام الأسد لِأنَّه كان يعلم أن الجولاني سيطعن الثورة السورية من الصدر كما البغدادي الذي طعنها من الظهر. شُعلة الثورة السورية يجب أن تُطفأ، هذا قرار اتخذه بالإجماع بوتين وإيران وأمريكا والغرب والصهيونية ودُول الخليج والقاعدة وداعش. لكل من هؤلاء مصلحته الخاصة بذلك. البُطون الفارغة لا تُفكر بعقلها أو حتى بعواطفها الحقيقة، لذلك فإن لحسن زميرة مُرتزقته، وللبغدادي مُرتزقته، وللجولاني مُرتزقته، والذي منا يستطيع تغيير مجرى الأمور، يستعمل أمواله لِشراء الذم، كما اشترت السعودية ودولة الإمارات ذمة السيسي وجنرالاته اللصوص وقتلوا بلا رحمة الديمقراطية المصرية الوليدة. يُمكن القول أن أمتنا استوفت أسباب الفناء.