كتاب عربي 21

الشعب يا ليلى يعاتبني..

طارق أوشن
1300x600
1300x600
على حلة عيني - 2015 للمخرجة ليلى بوزيد
تصدح الشابة فرح بصوتها وهي تتغنى بقصيدة كتبها حبيبها برهان قبل أن تفرق السبل بينهما ولو لحين.
صناديق النفايات والهررة..
مراكز الشرطة وكلابها..
ملفوفة في ورق لتباع في السوق بخسة..
والسيد يغني: الشعب يا ليلى يعاتبني..
(انقطع التيار الكهربائي عن الحفل الغنائي لكنها تواصل)
ويهرب قافزا من على جدار القصر..

......

ونامت تونس ليلتها على صراخ رجل يجوب الشارع وحيدا وهو يعلنها مدوية: بن علي هرب.. بن علي هرب، قبل أن تتلقف كاميرا التلفزيون شخصا هرما ينوح وهو يصيح: لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية. لكن ما الذي تبقى من "ثورة" تركت وحيدة لينهشها بعض من الأبناء الشرعيين وكثيرا من قطاع الطرق النضالية. نامت تونس على مجهول حاول النظام القديم أن يملأه بفؤاد لمبزع حتى تتضح الرؤية وينجلي ضباب "هروب" شكل علامة استفهام كبرى، لم تفك طلاسمها حتى اليوم، في غياب "نخبة" مناضلة تمتلك رؤية للحاضر والمستقبل في مواجهة ذاك المجهول.

والمجهول في فيلم الأمير – 2004 للمخرج محمد زرن، عنوان مجلة ثقافية أعلنت إفلاسها ومعها إفلاس المثقف التونسي في الالتصاق بهموم المجتمع وإثارة فضول القراء. فرؤوف المثقف لا يجد حرجا في محاولة عرض بضاعته "الثقافية" وفق مفردات سوق المال بدل التأكيد على تميزها الإبداعي وهو يقدم مشروعه للتمويل البنكي. فالثقافة في نظره بنك ككل البنوك قبل أن يستدرك قائلا إنها بنك للقيم الثابتة، ونحن جميعا مشتغلون بها، في استجداء مثير للشفقة لعطف الموظفة دنيا. فشل دفعه للتفكير في الهجرة إلى كندا حيث الجنة الموعودة في انفصام واضح عن الاهتمام بقضايا الشعب والالتصاق بالوطن. كندا هي ذات البلد التي انتهت إليها عائلة محمد البوعزيزي الذي يعتقد كثيرون أنه مفجر "الثورة" وأبوها الروحي. ولم تكن عائلة البوعزيزي وحدها من قررت أو اضطرت للهجرة بل سبقها وتلاها الآلاف من الشباب التونسي كل ييمم وجهته حيث يشاء له القدر فيلقى المصير موتا في البحر أو في براري وصحاري دولة الخلافة المزعومة التي تحول التونسيون إلى أكبر وقود بشري لها أينما كانت معاركها.

تعود الشابة فرح لتغني:
يا بلادي يا بلادي
أبوابك مقفلة وتعيشين المآسي
ارفع الصوت عاليا
يا بلادي يا أرض الغبار
الجياع يتجرعون الإهانات
أنياب كلبك مصنوعة من ذهب
وأفواه الفقراء بلا أسنان
العطشى يتضرعون إلى الله
وفي الغد سيُنفَون إن شاء القدر.

في الذكرى السادسة ل"الثورة" التونسية، اختفت مظاهر الاحتفال إلا من تظاهرات هناك وهناك تعيد إلى الأسماع نفس الشعارات التي انطلقت من سيدي بوزيد وقبلها في الحوض المنجمي. لا شيء تحقق كمكتسبات للمهمشين ومناطقهم باعتراف رئيس الوزراء "الشاب" الذي اختاره الرئيس التسعيني لتنفيذ سياساته دون جدال أو نقاش. وفي الوقت نفسه لا تجد البلاد غير عرض "مفاتنها" على المشترين من خلال مؤتمرات اقتصادية لا زال الفشل يرافق نتائجها مؤتمرا بعد آخر. وحدها "النخبة" تقضي أوقاتها على شاشات الإعلام "البنفسجي" تتنابز بالألقاب وتستعرض عضلات اللسان. لقد استعاد رموز النظام السابق/ الحالي حظوتهم وصارت لهم برامج وقنوات وضيوفا على المقاس كما أصهار زين العابدين بنعلي من الطرابلسية الذين لم يعودوا يستحون من الظهور وتكييف الحراك التونسي على أنه مجرد "مؤامرة" من أمنيين مقربين من الرئيس الهارب. وهم في ذلك لا يختلفون عن الدولة الرافضة إلى اليوم الاعتراف بلائحة "الشهداء"، لتكون "الثورة" لقيطة مجردة من رموز شرعيتها، بما يسمح بتغييبها من الذاكرة الجمعية التونسية المهمومة بالبحث عن قوت يومها في جانب، وبنقاشات بزنطية من جانب آخرين.

شبابيك الجنة – 2015، للمخرج فراس نعناع
تتجول سارة وأختها داخل مركز تجاري وعلى خلفية الحوار نسمع رفعا للأذان.
سارة: (مستغربة) منذ متى يرفعون الأذان هنا؟
الأخت: لم يعد أحد يفهم شيئا في أحوال هذه البلاد.
سارة أم لطفلة اسمها ياسمين، وفي الاسم استعارة ل"ثورة الياسمين". في الفيلم تموت البنت، ومن خلالها الثورة، لانشغال أهلها عنها. قبل الحادثة الأليمة لم يكن الأبوان على وفاق بخصوص رؤيتهما لمستقبل الفتاة الصغيرة.
سامي: لمَ تريدين تسجيل ابنتنا في البعثة الفرنسية.. لا أريد لابنتي التطبع بأخلاق ذرية الأثرياء الجدد.
سارة: وأنا لم تعد لدي ثقة في المدرسة العمومية. أعرف عما أتحدث.. أريد لابنتي مسارا دراسيا على قاعدة قوية وبرامج مكيفة..

سامي: أنت تعيشين في تونس. يتحدث الناس هنا عن العروبة والخلافة وأنت تتحدثين عن تكييف برامج. مكيفة على ماذا بالضبط؟
سارة: أريد لابنتي تربية كتلك التي تلقيتها من والدي. لا علاقة لي برغبة هذه البلاد في العودة خلفا.. وفي حال انقلبت الأمور أريدها أن تكون قادرة على متابعة دراستها بفرنسا.
سامي: وأنا أريد لها تربية تأخذ الواقع بعين الاعتبار بالشكل الذي يمكنها من التكيف في حال انقلبت الأمور. لم أنت متشائمة هكذا؟
هي أزمة هوية وتضارب اتجاهات وولاءات يحاول البعض أن يشعلها ما استطاع اليها سبيلا لإبعاد المواطن عن المشاكل الحقيقية للبلد أو عن المساهمة والتفكير في حلها.
سامي المهندس يقضي ليله في الحانات وفي طريقة عيش "حديثة" وفي النهار يشتغل على بناء مسجد دون مقابل كصدقة تقربه من الله زلفى. وزوجته لا تجد من متنفس إلا الغناء هربا من قيم الإخضاع الاجتماعية على وجه الخصوص. بعد وفاة البنت دخل الوالد في حالة حيرة واكتئاب. وكثيرون هم من استخدموا لفظي الاكتئاب والإحباط وهم يعلقون على وضع التونسيين بعد ست سنوات من "الثورة" للتعبير عن وضع يكاد يعيد إنتاج نفس المقدمات ل"ثورة" قادمة. صحيح أن حرق الذات لم يعد محركا للجماهير لكن لا شيء يحصن البلاد من السقوط في ردة الاستبداد مع ما تشهده المنطقة من تراجعات تمحو كل مكتسبات الحراك، والوقود شباب تائه بلا بوصلة وبلد مستباحة للأيادي الخارجية القريبة والبعيدة.

في فيلم الأمير لمحمد زرن، شخصية ضرير مختص في بيع المرايا للمواطنين، وهو المحروم من نعمة النظر والإبصار. والمثل يقول إن فاقد الشيء لا يعطيه، وذاك قد يكون حال ما يدبر لتونس وتجربتها.
فرح تغني:

عندما أفتح عيني، أرى المحرومين
من العمل أو الطعام والحياة خارج أحيائهم
محتقرين ومضطهدين ومغمورين
يتنفسون تحت الأحذية
عندما أفتح عيني، أرى ذاهبين إلى المنفى
يعبرون المحيط وكأنهم في اتجاه الموت يحجون
هموم البلاد أفقدت الكثيرين صوابهم
ودفعتهم للبحث عن هموم جديدة غير التي خبروها
عندما أفتح عيني، أرى منبوذين
في عرقهم عالقين ودموعهم مالحة
سرقت دماؤهم وأحلامهم صارت ذابلة
على ظهورهم بنيت قصور وقصور..

كلمات كانت كافية لتصبح فرح وزملاءها في الفرقة الموسيقية هدفا لعيون الأمن التونسي.
تفتح حياة، والدة فرح، باب البيت لتجد مسؤولا أمنيا جمعتهما علاقة غرامية في سابق الأيام. يحاول الدخول فتمنعه.
المسؤول الأمني: لا أستطيع الحديث هنا.
على الكنبة يجلسان.
المسؤول الأمني: لا أعرف ما الذي دفعني للمجيء. في مثل هذه الحالات نرسل دوما من يتحدث إلى الأهل... حياة، ابنتك فرح تخالط شبابا تراقبهم الشرطة. إن واصلت على هذا النحو ستواجه كثيرا من المتاعب.
حياة: هل تتحدث عن شباب الفرقة الموسيقية؟ ألا تجدون عملا تقومون به غير متابعة هؤلاء؟
المسؤول الأمني: أنت لا تعرفينهم؟
حياة: أعرف ابنتي.

المسؤول الأمني: وهل تعلمين أنها قضت ليلة البارحة تشرب الخمر بحانة رجالية وسط المدينة؟ وهناك تغنت بأغنية عن أحوال البلاد. عليك الاعتناء بابنتك يا حياة.. أنا أسعى لمصلحتها.
لم تمض غير أيام حتى وجدت فرح نفسها بين أيدي المحققين.
المحقق: من أين أتيت بالنص الذي تليته؟ من كتبه؟ تكلمي.. (صفع).. من يكتب لك الأغاني؟ قولي شيئا..

القهر السلطوي والسيطرة الأبوية لا تولد غير جيل مشوه يكفر بالوطن، وهو عز ما تطلبه الأجهزة الأمنية لأنه سبب وجودها وذريعتها لبسط السيطرة على الأفراد والجماعات. تونس الياسمين بدت في الرابع عشر من شهر يناير قبل ست سنوات شابة مفعمة بالحيوية، مليئة بالطموح ونموذجا للاستنساخ، لكنها اليوم تبقى على شفا بناء مجتمعي ودولتي هش أقرب ما يكون للسقوط على النهوض. تونس خضراء قيل إن “ثورتها" شبابية وانتهى بها المطاف رهينة جيل تسعيني يأبى الاستسلام لا حل أمامها غير "قتل الآباء" بالمعنى المجازي وحمل النعوش كما فعل سامي وهو يواري والده، الذي لم يره ثلاثين عاما، بجانب أخيه الذي لا يعلم قرابته منه. لكن الأمر كان في الأخير مساعدا له على التطهر والانطلاق مجددا بعد فقدانه ياسمينه / ياسمين تونس. وهناك من الجنوب، حيث الخير كله أو الشر أجمعه، عاد منطلقا لبناء حياة جديدة على أنقاض ماض وصراعات لا تكاد تنطفأ حتى تشتعل من جديد. ل"ثورة" الياسمين في تونس آباء كثر حقيقيون ومزيفون لكنهم هرموا قبل أن يزفوها للحياة وإكرامهم الدفن قبل أن ينقلوا العدوى وينشروا وباء الاستكانة والخنوع والقبول بالاستبداد.

فرح
لست سارقة وما أنا مجرمة.
لكني أملك طموحا وأعرف أنني سأدفع الثمن.
أنا عنيدة ولا ريح تستطيع تغيير مجرى حياتي.
أنا كافرة بهم وبك أؤمن.
أقبلك وأصلي من أجل عينيك.
أؤمن بالحب غير المذكور في الكتب والسماوات.
الحب في الشوارع أحمر داكن يسطع في عتمة الليل.
الفرح والياسمين مفردتان يسعى كثيرون لمنع غراسهما في النفس التونسية حتى لا ينجح النموذج وتنتشر أزهاره على جغرافيا الاستبداد من المحيط إلى الخليج. تلك حقيقة لا مراء فيها ولا تحتاج لمرايا ضرير فاقد لنعمة الإبصار.
0
التعليقات (0)