قضايا وآراء

"في الثقافة الافتراضية"

يحيى اليحياوي
1300x600
1300x600
نزعم أن العولمة، في محدداتها ومرجعياتها وخلفياتها وطبيعتها، هي ظاهرة اقتصادية بامتياز. ما سواها من "حالات عولمة" هي إلى الفرع والرافد، منها إلى الأصل. 
 
فالعولمة الإعلامية مثلا أو التكنولوجية أو العلمية، لا تعتبر إلا رافدا من روافد العولمة الاقتصادية، ليس فقط على اعتبار أن لهما توجها متلازما تلازم الروح والجسد، ولكن أيضا لأن هدفهما المشترك يتغيأ فتح الأسواق، والزيادة في الأرباح، وتسريع وتيرة دورة رأس المال. 
 
ولما كانت طبيعة رأس المال هي نفسها، لا تتغير كثيرا بتغير القطاع المستثمر فيه، فإنه يصبو موضوعيا إلى تحقيق عولمته، وعولمة المكونات التي تدفع بمجاله على مستوى السعة وعلى مستوى وتيرة الاشتغال. 
 
بالتالي، فإن ما يتعولم من الثقافة، إنما تلك الجوانب المرتبطة عضويا برأس المال المادي، وليس الثقافة في شموليتها، أي الثقافة باعتبارها رموزا وهوية وانتماء ولغة وكينونة للأفراد والجماعات. 
 
ومعنى هذا أن الذي يخضع للعولمة في الثقافة هو مكونها المادي الجلي، بحكم قابليته لذلك، وليس الثقافة في كل مكوناتها ومشاربها ومصادرها. ومعناه أيضا أنه لو تسنى لفاعلي العولمة الكبار (شركات متعددة الجنسيات وفاعلين عابرين للحدود) أن ينشروا، على نطاق واسع، منتجات السينما ومسلسلات التلفزيون وبرامج التسلية والترفيه وأسطوانات الموسيقى وغيرها، فإنه لن يتسنى لهم عولمة سلم القيم أو منظومات التمثل التي كانت خلف صياغة ذات المنتجات وإنتاجها. 
 
وبالقدر نفسه، فإنهم لن يتمكنوا أن يفرضوا ذات المكونات الثقافية على سلم القيم ومنظومات التمثل المتلقية...إذ لا يخضع لطقوس ومنطق العولمة إلا "السلع الثقافية" الصرفة، وليس بأي حال من الأحوال الرموز والتصورات والتمثلات. 
 
ولهذا السبب ولغيره حتما، فإن البعد الاقتصادي هو الذي يجعل منظمة التجارة العالمية مثلا، تدفع بطرح إخضاع ذات السلع لمنطق السوق، ثم لمعادلة العرض والطلب، تماما كما تخضع باقي السلع ذات الطبيعة التجارية الخالصة. 
 
لا يختلف سياق التحليل كثيرا لو اقتصرت زاوية الرؤية مرة أخرى على المكونات الثقافية القابلة للعولمة. فما يثار من حديث عن عولمة المعرفة مثلا، لا يحتكم كثيرا إلى الدقة والتمحيص. إذ ما يروج عبر وسائل الإعلام المقتنية لأدوات البث العابرة للحدود (فضائيات وتلفزيونات بالسواتل)، وما ينشر على مواقع الشبكات الإلكترونية لا يعدو غير كونه معلومات ومعطيات وبيانات، وليست إلا في القليل النادر منها معرفة، باعتبار هذه الأخيرة تنظيرا ونمذجة لما يروج بواقع الحال، أو من شأنه أن يروج... 
 
والقياس، في هذا الباب، ممكن باللجوء إلى أطروحات نقل التكنولوجيا مثلا، إذ ما ينقل من الدول الكبرى إلى الدول الأقل نموا، إنما تقنيات وأعتدة وأجهزة، وليست بأي حال من الأحوال طرق التصميم أو الاختبار أو المعرفة...فتبقى التقنيات إياها بالتالي غريبة عن المحيط المنقولة إليه، في انفصام كبير مع منظومة قيمه ونمط عيشه. 
 
وحتى لو استطاع المرء تملك هذه الأجهزة والأعتدة والتقنيات، فإنه لا يخضعها لآليات إعادة الإنتاج، بغرض تبيئتها وموطنتها والنسج على منوالها، في أفق الاستقلالية التكنولوجية أو المعرفية. إنها تخضع وبطريقة تلقائية، بمجرد وصولها "لعين المكان"، لمنطق الاستهلاك، الذي يدمر السلعة ويقوض معالمها. 
 
ولذلك، يبدو لنا أن الذي يتعولم من الثقافة إنما المكونات ذات القابلية لذلك...أعني ذات "الطبيعة الاقتصادية الخالصة"، بدليل أن "المجموعات الثقافية" الكبرى (المصممة والمنتجة للمواد الإعلامية السمعية/البصرية، أو للبرامج المعلوماتية أو للموسوعات العلمية المرقمنة) لا تدعي أنها تنتج وتبيع مواد ثقافية، أو ذات طبيعة معرفية، بقدر ما تعتبر أن نشاطها يطال المضامين والمحتويات كسلع للاستهلاك.  
 
بالمقابل، يبدو الأمر مع الشركات الكبرى ومع تزايد هيمنة الشبكات التقنية التي تتوفر عليها، أن الثقافة إنما أضحت مطالبة، تماما كرأس المال "الإلكتروني"، بأن تقتني ذات الشبكات، إن هي راهنت على هدف التدويل وتغيأت الانخراط في مسلسل العولمة...وهو ما فتئت الأدبيات تبشر به تحت مسمى "الثقافة الافتراضية". 
 
والثقافة الافتراضية المقصودة في هذا الباب، إنما هي تلك الثقافة المرتكزة على الفضاء الافتراضي، حيث تنفصم العلاقة بين الزمن والمكان، ويصبح الفضاء الواقعي جزءا (ليس إلا) من الفضاء الافتراضي، وحيث المستوى المحلي والوطني يغدو مجرد مكون من مكونات ذات الفضاء، وليس فضاء قائما بذاته ومستقلا. 
 
والمقصود بالثقافة الافتراضية، من ناحية ثانية، إنما مجموع الثقافات المرتبطة ببعضها البعض عبر الشبكات الإعلامية والاتصالاتية والمعلوماتية وغيرها. بالتالي، فالفاعلين في القطاع الثقافي يعتبرون أن الشبكات هاته إنما تمثل بنية الارتباطات الضرورية لبلوغ فضاء النظام العالمي. إنها أدوات العولمة الجديدة، التي يلجأ إليها فاعلو القطاع الثقافي لإسماع صوتهم على نطاق عالمي. 
 
ومعنى هذا أن الثقافة الافتراضية لا تحتكم إلى حدود و لا تخضع لقوانين وطنية، إنها "ثقافة الشبكات"، حيث لا إكراهات إلا ما تفرضه ذات الشبكات أو تقيمه. وعلى هذا الأساس، فطبيعة الثقافة إياها تبقى من طبيعة الثقافة المعولمة، إذ ما يخضع للافتراضي في الأولى إنما هي البيانات والمعلومات والمعطيات، وليس الثقافة كنموذج حياة وسلوك وكمنظومة قيم ورموز، هي عصية على ذلك وبكل المقاييس.
التعليقات (0)