قضايا وآراء

مركزية السلطة وكيف أضرت بالإسلاميين

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600
تبني الأيديولوجيات مشاريعها عادة على أساس مركزية هدف الوصول إلى السلطة التي تتخيلها بأنها جنة الخلد، وملك لا يبلى، فتسخر في سبيل بلوغها كل الجهود وتبذل كل التضحيات، ولا يتصور الأيديولوجيون قدرتهم على القيام بدور مؤثر قبل التحكم بمقاليد السلطة، وكأن كل وقت خارج السلطة ضائع، وكأن كل جهد قبل الحكم مجرد قطع طريق باتجاه الحكم.

وهكذا تتضاءل كل مساحات الحياة، ولا تعدو أكثر من رئيس ووزير وشرطي، إذ تدور الأيام دورتها ويأتي اليوم الموعود يقبض المناضلون على السلطة بأيديهم، ويتشبثون بها، ويغذي وعيهم شريط التضحيات السابقة ليذكرهم بالثمن الباهظ الذي بذلوه من أجل هذه اللحظة التاريخية، فيتعمق إصرارهم بضرورة التمسك بها بكل وسيلة وحيلة، وتصبح المحافظة عليها قضية حياة أو موت.

ويعجز الحزبي عن رؤية نفسه خارج السلطة، بعد أن دخل جنتها ويبدي استعداده للقتال إلى آخر قطرة دم وإلى آخر رجل في سبيل عدم التخلي عن السلطة مخافة أن يعني التخلي عنها خسارة المشروع الذي قضى حياته منافحاً عنه!

"مركزية السلطة" تعني أنها طريق في اتجاه واحد، فإذا صعد الحزب إليها مرة ألقى السلم ولم ينزل ثانية، واعتبر موقعه الجديد نهاية التاريخ وعمي عن رؤية سنة تداول الأيام، ولم يعد قادرا على الاستبصار ورؤية كيف خلت من قبله المثلات، وهو يستند في ظنه إلى تفكير رغائبي وأمنيات لا إلى حقائق موضوعية.

وإذ يتصور صاحب السلطة أنها الحلقة الأخيرة في مسلسل التاريخ، فإنه يرى في البقاء في السلطة معركته الكبرى، و يرى أي تهديد لهذه السلطة معاكسة للأقدار ومعاندة لإرادة الله وتآمرا كونيا،  فإذا رصد بدايات تململ جماهيري استنفر حذره وقوته، فإذا كتبت المواجهة قاتل وظهره إلى الجدار، واعتقد أن ليس من سبيل أمامه سوى الاستماتة حتى الموت.

وما دام هذا هو الإطار العقلي الحاكم، يصير من المتوقع ألا ترحل السلطة إلا بأنهار من الدماء والمآسي وأن يدفع الجميع ثمن الخوف المهيمن في الأجواء، فابن السلطة يتشبث بها ليس لأنه شرير بالضرورة بل لأنه خائف.

إنه يعتقد أن السلطة ركنه الركين وملاذه الأخير الذي يحميه ويعطيه انتماءه وكينونته، فإذا سقط هذا الملاذ انكشف ظهره وتلاشى كيانه ولم يجد من يحميه من طوفان الغضب ونقمة الجماهير.

لعل ما يشهده العالم العربي في واقعنا الراهن ومن قبله كثير من الأحداث العالمية الدموية من إحدى وجوهها ثمرة لمرض مركزية السلطة، فالأيديولوجيات تقاتل باستماتة وتشعل الحروب والحرائق وترتكب الفظائع لأنها تعتبر السلطة معركتها الأخيرة وترى فقد السلطة فقداً للكيان والوجود ذاته.
 
يقص التاريخ علينا نبأ وزير الدعاية في نظام هتلر "جوبلز" الذي أقدم على الانتحار مع زوجته وجرع أطفاله الستة السم ليموتوا معهما جميعاً، وفسر فعلته بأنه يخشى أن يهان أطفاله أمام الروس بعد وفاته! هذه القصة مرعبة وصادمة للوعي، فهي تعني أن السلطة في وعي الأنظمة الأيديولوجية ليست مجرد شهوة ومكاسب مادية بالمعنى التبسيطي للكلمة، بل هي عقيدة، وهي ما تمنحهم الكينونة فإذا خسر الأيديولوجي السلطة شعر أنه خسر كل شيء ولم يعد مبالياً بحرق الأخضر واليابس وهو يخوض حربه الأخيرة.

في الأنظمة الديمقراطية التي تتراجع فيها سطوة الأيديولوجيا لا تعود خسارة السلطة مشكلةً تتوقف بعدها الحياة، فالسلطة في هذه الأنظمة لا تتسم بالطابع الشمولي التغولي على كافة تفاصيل الحياة ، والحزب الذي يختزل كل مشروعه في حكومة أو سلطة ليس أكثر من مجموعة من الانتفاعيين، وفي المجتمع مساحة للتأثير بغير أدوات السلطة التقليدية.

أما الحكم فهو فرصة زمنية محدودة لاختبار برامج الأحزاب، فإذا فشلت هذه البرامج فلن يضر الحزب أن يرجع خطوةً إلى الوراء ويعيد فحص أفكاره وتقييم برامجه ليعود أقوى مثل التاجر الذي تخسر تجارته فلا يجد حرجاً في إعادة تقييم سياساته التجارية.

إن ما يدفع حزباً إلى تقبل خسارته بروح رياضية بل حتى اتخاذه قراراً بحل الحزب هو ابتعاده عن النمط الشمولي الذي يتدخل في كافة تفاصيل الحياة، وتحرر أفراده من الشعور بأن كينونتهم متماهية في كينونة الحزب، فانتماؤهم إلى الأمة، أما الحزب فهو وسيلة مرنة يمكن استبدالها بيسر ودون تشنج.

إن الخروج من السلطة لا يعني موت الكيان بل يعني أن هذا الكيان مرن بالقدر الكافي ليجدد نفسه ويفلت من الجمود والتحجر الذي لا ينفع في علاجه سوى الضربة الأليمة القاضية من الله أو من الناس.

الخروج من السلطة في بعض الظروف ليس معنىً أخلاقياً وحسب، بل هو مقتضى التقدير الصحيح للمصلحة، ذلك أن مفهوم السلطة ذاته قد تغير، فهي أشمل من مجرد حكومة تتورط في مسؤوليات المعيشة اليومية للناس مع ما يستجلبه التقصير في ذلك من زيادة الغضب في النفوس واستنزاف الرصيد الشعبي.

 السلطة تعني أن تكون قادراً على التأثير في المجتمع بوسائل متعددة، فالإعلام الذكي سلطة أقوى من سلطة الحكومة لأنه قادر على توجيه وعي الجمهور وصياغة هوية الأمة، والاقتصاد سلطة لأن من يمسك بمقاليد الاقتصاد قادر على التأثير على سياسة الحكومات، تخيلوا أن يعرض على مؤسس شركات فيسبوك أو أمازون أو جوجل رئاسة الولايات المتحدة! غالبا سيرفضون لأن نفوذهم في الاقتصاد أقوى، والإلهام الروحي سلطة تتفوق على سلطة الرئيس، ويكفي أن تنظر إلى رصيد القادة الروحيين والعظماء من الأدباء والشعراء مثل غاندي وشكسبير وتقارن بين رصيدهم من الاحترام والتقدير في الوعي الجمعي لتلك الأمم ورصيد الساسة لتعلم أنهم هم أصحاب السلطة الحقيقية.، لذلك رفض عالم الفيزياء ألبرت آينشتاين القبول بعرض رئاسة دولة الاحتلال، ورد بالقول: " "أنا رجل علم ولست رجل سياسة".

في تسجيل "الخمسة بلدي" الشهير عام 2006 يقهقه محمد دحلان وهو يدخن سيجاره منتشياً بفوز خصمه اللدود في الانتخابات التشريعية وخسارة حركته فتح معللاً ذلك بأن "حماس نكبت نكبةً كبرى بفوزها، لأن أي شخص في الحكم في الوضع الفلسطيني سيكون أضعف منه في المعارضة، ويواصل أن الناس كانوا يرجمون مقرات الشرطة بقذائف ال "b7"" ثم تكون السلطة هي الطرف المدان، وتكون مطالبةً من الناس بتوفير الكهرباء والرواتب ومقتضيات الحياة!

جاء تتابع الأحداث طوال العقد المنصرم مؤكداً هذه النبوءة، فحماس منذ أن تورطت في مسؤوليات الحكم خسرت تألقها النضالي وتراجعت القضايا الوطنية الكبرى من اهتماماتها و حشرت في صندوق غزة الضيق واستنزفت في مطالب الناس اليومية من رواتب وكهرباء ومعابر، وعلقت أوحال تجربة السلطة بها فشاب أداءها الحكومي مظالم وتقصير واغتنت بعض القيادات فيها بمشاريع ربحية، وقاد كل ذلك إلى نتيجة أن حماس بعد السلطة أضعف مما كانت قبلها مهما سيقت مبررات بأن الدخول في السلطة كان حامياً للمقاومة، إذ إن المقاومة كانت أقوى حين كانت متحررةً من تعقيدات السياسة وأوحال السلطة ومسؤوليات الناس.

المثال الثاني من مصر، إذ وضع الإخوان ثقلهم التاريخي والاجتماعي في تجربة السلطة، فكانت ضربة الثالث من يوليو مؤلمةً وقاسيةً جداً إن لم تكن مميتةً، ولم يعد يسيراً على الإخوان أن يعودوا لممارسة ذات الدور الاجتماعي الذي كانوا قادرين على ممارسته بعد أن نصب لهم فخ الحكم بعناية، فكانت سلطةً بلا سلطة إذ لم يكونوا يملكون شيئاً من أدوات التأثير الاقتصادية والإعلامية والأمنية، وكانت النتيجة الوحيدة التي خرجوا بها من تجربة السلطة هي تآكل رصيدهم الشعبي ومباركة الجمهور المغيب لاضطهادهم بعد أن حملهم مسؤولية كل الكوارث السابقة واللاحقة.

ولو أن الإخوان انشغلوا في مرحلة ما بعد إسقاط مبارك في نشر ثقافة الديمقراطية وإدامة الحس الثوري في الشارع دون أن يطرحوا مطالب خاصةً لربما قاد ذلك مصر إلى نتيجة أقل مأساويةً ولتعقدت مهمة العسكر في الانقلاب على الثورة.

لا أقصد بنفي مركزية السلطة موقفاً سلبياً أو زهداً صوفياً، إذ لا بد من رؤية لإصلاح النظام السياسي الحاكم والنضال في سبيل عودة السلطة إلى الشعب، إنما أقصد ألا يكون الوصول إلى السلطة هدفاً فئوياً خاصاً بالحزب في أي وقت وأي ظرف وبأي ثمن، فالرؤية الإصلاحية هي مشروع أمة لا مشروع سلطة، وكثيراً ما يكون الوصول إلى السلطة ضاراً بالمشروع لا خادماً له.

ويكفي الجماعة أن تكون دافعاً في اتجاه تعزيز قيم الديمقراطية والحكم الرشيد وخلق مناخ ملائم لتداول السلطة وكسر هيمنة الحزب الواحد وتعزيز سلطة المجتمع المدني، فإذا تحققت هذه القيم بالنضال السلمي نعم الجميع بالديمقراطية وتهيأت الأجواء لتشكل الأحزاب في مناخات سليمة من التنافس الديمقراطي ومنحت الفرصة الطبيعية لممارسة برامجها.

وكما أن خسارة السلطة لا تعني نهاية الكون، فإن التفكير في الخروج الآمن من السلطة إذا تبين لأصحابها أنها باتت عبئاً مستنزفاً لقوتهم وأن ضررها أكبر من نفعها وإعادة التموضع في المجتمع والبحث في وسائل أخرى للانتشار الإيجابي في المجتمع ليس عيباً بل قد يكون أفضل الخيارات المتاحة وهو الذي يتيح للجماعة التعافي من أزماتها وتجديد روحها ووقف مزيد من الانحدار والنزيف لرصيدها.
التعليقات (0)