كتاب عربي 21

أحكام الشعوب وتحكم المستبدين

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600
كنا قد أشرنا في مقال سابق إلى ذلك المشهد الذي يتعلق بسليمان الحلبي الذي قتل "كليبر" قائد الحملة الفرنسية، سليمان الحلبي الذي وصل إلى القاهرة في صحبة زملاء له من غزة، يفكر سليمان الحلبي في ما صادف مصر من احتلال استنفره واستفزه، واتخذ قرارا بتنفيذ ما استقر رأيه عليه، آت من حلب مرورا بغزة حتى وصل إلى القاهرة ليدرس في الأزهر قرر من يومه أن يحرر مصر ممن يحتلها ويغتصب مقدراتها.

حينما قام بذلك وهو القادم من حلب فإنه كان يمثل قانون الشعوب، قانون الشعوب الذي لا يعرف حدودا، يؤمن بأمته ويجعل من تحريرها همه واهتمامه، يقوم المستعمرون الذين قادوا حملتهم العسكرية بعد محاكمة سريعة بإصدار أقسى الأحكام باعتباره "مجرما"، ولكنه في حقيقة الأمر عبّر عن حالة تحرير لم يكن ليرضى أن ترزح القاهرة تحت نير مستعمر يتحكم فيها وفي أهلها.

قبل أن يعدموه أعدموا أمام عينيه زملاء له من غزة لم يفضحوا سره، واعتبروهم شركاء بجرمه كما ادعوا، وفي الحقيقة كان عمله وطنيا مقاوما أبيا، حرقوا يده التي طعن بها قائد الحملة الفرنسية، ومثلوا به واضعين جسده على خازوق حتى فارق الحياة، اعتبر سليمان الحلبي روحه رخيصة من أجل تحرير القاهرة من مستعمر غاشم، واعتبر كذلك أن حرية القاهرة وهو من حلب وقد قصدها متعلما دارسا فيها من الحقوق التي تقع على كاهله، إنه رمز للشعب الذي يشعر أن قضية كبرى تتعلق بالتحرر من مستعمر غاشم هي في صميم قضيته التي تتعدى الحدود.

فماذا عن هؤلاء الحكام، حاكم مصر الانقلابي وحاكم سوريا الجزار الذي يقتل شعبه ليل نهار؟ وإذ تنتفض الشعوب وتتكافل في محنها وتؤكد أن شأن الأمة يسكن النفوس، وأن حريتها هو مقصد أعلى تسترخص فيه النفوس والأرواح، إنه قانون الشعوب حينما يصدع بكل ذلك مدافعا عن قيم كبرى تتعلق بالحرية والتحرير، وتؤكد أيضا أن الثورة في مصر هي امتداد لثورة في سوريا، وأن تحالف الشعوب في مواجهة المستبدين أمر تؤكده ليس فقط المشاعر ولكن يؤكده اتحاد وتوحيد بين نفوس الأمة الكبرى في عمل يهدف لمواجهة ومقاومة الطغيان، إنه نفس التاريخ تتعلمه وتعلمه الشعوب حينما تؤكد وتتأكد من وحدة مصيرها ووضوح مسارها. 

في ذات الوقت يمر علينا حدث آخر مع مرور الأيام والسنين مهندس طيران تونسي (محمد الزواري) هذا الرجل يمد تفكيره حتى فلسطين وعناصر مقاومتها، يعرف أن الكيان الصهيوني هو عدو للأمة بأسرها، لم تكن فلسطين إلا ضحية ونهوض الأمة بأسرها لدعم المقاومة لهذا المحتل الغاصب أمر مقرر في قانون الشعوب لا يقف هذا الفرد عند حد أو جنسية، حركته تنشد معنى الحرية، وتؤكد أن مقاومة العدو الصهيوني هي في القلب من القضية، وكأن اضطراد الفعل الحر في مدرسة الاستقلال والحرية ومواجهة الغاصب والطاغية أمر يحتضن فعل المقاومة.

أن يقوم الموساد الإسرائيلي بالتخطيط لقتل هذا الرجل واستهدافه وحرصه على إنجاز مهمته، قتله من قبل العدو الصهيوني هو قتل المعنى الذي يتعلق بنشدان الاستقلال ومقصد الحرية، هذا الأمر الذي استقر في وجدان الشعوب وتأكد في ذاكرة الأمة، أن المعركة الكبرى والحقيقية هي مع الاستبداد والاستعمار معا. 

المستبد مشروع خيانة، يخون أمته يستقدم مستعمرا ويصيره حليفا له، بشار الجزار والسيسي السفاح كلاهما يتعاونان ويتحالفان لا نستغرب ذلك، هذان وأمثالهم يستبيحون  أرواح وكرامة هذه الشعوب، حماية السيسي لإسرائيل واعتباره أمنها- زورا وتزييفا- في محاولة لإسناد شرعنة نظامه المستبد الغاصب، وبشار يدعو روسيا كما يدعو إيران للنيل من الشعب السوري، لا يستنكف هذا وذاك فعل القتل والإذلال حتى لو قٌتل الناس بالآلاف، وهٌجر الناس بالملايين، بعض الشعب يُستأصل ويٌباد، وبعض من شعبه ينزح حتى لو زاد عدد هؤلاء عن نصف الشعب السوري، لا يعبأ بهذا، والسيسي المنقلب يتباهى باستراتيجياته في الترويع والتفزيع لكل شعبه، واستراتيجية التجويع في عملية إفقار ممنهجة لشعبه مستخفا بكيانه ومعاشه.

ما هو الدرس الذي يمكن أن نتعلمه من كل ذلك؟ أخطر الدروس التي تمر بهذه الأمة المستبد يجعل من كرسيه عنوان مصلحته ومحط حمايته، والمستعمر لا يهتم إلا بمصالحه الآنية والأنانية يحققها عبر المستبد، ويحقق المستبد مصلحته عبر المستعمر، ولذلك قلنا إن المستبد مشروع خيانة، يخون وطنه ويهدر كرامة شعبه، ويريق دمه ويطارد أهله، في كل ذلك يمارس كل ما من شأنه أن يدشن عقلية قطيع لا يحسن إلا التفزيع والترويع. 

هذا الدرس هو درس الوطن يٌستقى من ذاكرة التاريخ التي تتجدد وتنبعث من جديد، ما الذي يدعو الحلبي أن يهتم بتحرير القاهرة وما الذي يدفع بتونسي أن يكون عضوا في مقاومة كيان صهيوني غاصب، هذه هي القضية الكبرى التي تحرك معاني المسؤولية وتمثل وتشكل أصل القضية، حينما يخون المستبد أمته مقابل استمرار حكمه، ويجعل من الوطن مساحة تباع وتستباح من مستعمر    حتى لو نال ذلك من الوطن حرية واستقلالا، وحينما يجعل المستبد كل همه أن يقلص عناصر الأمن للمنافحة عن كرسي حكمه، فإنه أيضا يخون كل ما يتعلق بحقيقة الوطن وموجبات العمل الوطني. 
   
درس نتعلمه من هذين النموذجين مقاومة حضارية أصيلة، بغية تحرير وحرية رصينة، يتأكد في كل ذلك معاني الرحم الحضاري الذي يحملهما على مر التاريخ، وهؤلاء المستبدون يشكلون أيضا ذاكرة التاريخ في حمل الأمة الكاذب، ممن يقيمون الاستبداد ويحرسون التخلف ويستبيحون النفوس، رغم أن هؤلاء يشكلون حقيقة مرة.. ببغيانهم وصلفهم يهدرون كل إمكانية ويجهضون أمل الأمة. 

وفي ذاكرة التاريخ يأتي العدو يستقدمه ويستدعيه المستبد، يستقوي به على شعبه، يستخدم كل أدوات الإبادة، لا يستنكف ذلك، ليشكل ذلك أخطر مشاهد بيع الأوطان واستباحة النفوس، وترويج الأوهام الكاذبة، وفي المقابل تظل الأمة تلد مقاوميها وتجد فيهم عزها وشرفها، الحلبي والزواري والمقاومة هي معانى الثورة، التي تظل قائمة في النفوس وتمثل الرموز، ترفض المستبد الطاغية وتجابه المستعمر الداهية، إنه مصير أمة، تبدو المشاهد قاتمة شديدة السواد، لكن المقاومة التي تبرز هنا وهناك وعلى مر التاريخ، والتضحيات التي تأتي وتٌقدم على أيدي هؤلاء تؤكد أن أمة الحرية لا يمكن أن تفقد حياتها ولا تفرط في إحيائها وعزها.
التعليقات (0)