قضايا وآراء

عن الموروث السياسي الثقافي الإسلامي

حسين عبد العزيز
1300x600
1300x600
 يشكل الموروث الثقافي في الأمم الراكدة تأثيرا مهما على عقول وسلوك أبناء هذه الأمة، إما بشكل واع وعقلاني كما هو الحال عن رجالات المعرفة (الثقافة العالمة)، أو كما هو عند الناس العاديين (الثقافة الشعبوية).
 
ويتضاعف تأثير هذا الموروث عندما تفشل الأمة في الإجابة عن أسئلة الحاضر الثقافية، أو عن إنجاز عملية التحول الحضاري، والانتقال من مرحلة القوة إلى مرحلة الفعل.
 
لقد تحول الموروث السياسي الإسلامي إلى تقليد ألقى بظلاله على مجمل التجربة السياسية الإسلامية، وما زال تأثيره حاضرا إلى اليوم.
 
لا يفهم من ذلك أن ثمة علاقة سببية بين هذا الموروث وعملية الانتقال إلى الحداثة، لكن الموروث الثقافي أو الثقافة السياسية مع ذلك تشكل شرطا ضروريا لتلك العملية، مع التفريق الواضح بين السبب والشرط.
 
بعبارة أخرى، لا يجب الوقوع في فخ بعض المنظرين العرب والأجانب الذين حولوا الثقافة إلى معطى ثابت فوق التاريخ ملتصق بالهوية، وبموجبه يصبح سلوك الناس مرتبطا مباشرة بطبائعهم، وقد اتخذت هذه المقولات غير العلمية حجة لدى الأنظمة الاستبدادية العربية للهروب من الإصلاح السياسي تحت عنوان أن الشعب غير جاهز ثقافيا للديمقراطية.
 
هل علينا التذكير على سبيل المثال بأهمية تأثير الموروث الثقافي أو الفقه السياسي الإسلامي المتمثل بالأحكام السلطانية والسياسة الشرعية اللتين شرعتا طوال قرون لنظام الضرورة، أي لنظام الملك العضوض (ولاية التغلب)؟ فإن الخشية من العصيان والفوضى دفعت الفقهاء إلى تطوير نظرية للشرعية تؤدي إلى إدراك السياسي خارج الإطار الشرعي طالما أن إمارة الاستيلاء والتغلب تحقق أمرين: الكفاية وتعني العدالة ومنع أية محاولة للفتنة، والشوكة وتعني التصدي للعدو الخارجي.
 
وفي هذا التقليد لا أهمية للطريقة التي توصل إلى السلطة طالما أنها أي السلطة الجديدة قادرة على تحقيق الهدفين اللذين يحفظان وحدة الأمة (الكفاية، الشوكة)، وقد أسس لهذا التقليد كبار العلماء والفقهاء السنة بدء من ابن حنبل وانتهاء بابن تيمية مرورا بالماوردي والجويني والغزالي، الذين حددوا الحكم بمقاصده لا بطبيعته وأصوله.
 
وبحسب هذا المفهوم، فإنه يجب تحمل مساوئ الحكم شرط محافظة الحاكم على ممارسة الإسلام، وباستثناء الجاحظ الذي خالف هذا التقليد بدعوته خلع الخليفة الظالم، مازال هذا التقليد الفقهي السياسي مستمرا إلى الآن، ومثاله الأبرز على مستوى الثقافة العالمة البوطي في سوريا، وشيخ الأزهر أحمد الطيب في مصر والصادق الغرياني والمدني الشويرف في ليبيا وجمعية علماء اليمن في اليمن، كما أننا نجد هذا التقليد مستمرا على مستوى الثقافة الشعبية لدى جزء كبير من الشارع العربي الذي وجد في الثورات فتنة تهدد الأمة.
 
هذا التقليد الفقهي في السياسة ظل مستمرا إلى الآن، وإن شكل القرضاوي حالة استثنائية له، لكن مع أحداث الربيع العربي، فقد بدأت أصوات دينية تحذو حذو القرضاوي في ضرورة الخروج على الحاكم إن كان مستبدا، وحال دون تحقيق العدالة التي هي أساس الملك، فيما حافظ آخرون على هذا التقليد الذي يرفض الخروج على الحاكم.
 
هكذا كان الوضع في مصر بعيد ثورة 25 يناير حين وقف علماء ورجال دين إلى جانب الثورة، منهم الشيخ المؤرخ جمال عبد الهادي، والشيخ الفقيه محمد عبد المقصود عفيفي، والشيخ فوزي السعيد، والشيخ نشأت أحمد، فضلا عن السلفيين الحركيين، في حين وقف الأزهر ووزارة الأوقاف والدعوة السلفية في الإسكندرية في بداية الأمر ضد الثورة.
 
كذلك الأمر في سوريا، حيث أيد بعض رجال الدين الثورة، وفي مقدمتهم معاذ الخطيب، وأنس العيروط، وأبو الهدى الحسيني من الطريقة الشاذلية، وأسامة الرفاعي ومحمد راجح من الطريقة الرفاعية.. إلخ، فيما عارض مفتي البلاد أحمد حسون ووزارة الأوقاف والبوطي وصهيب الشامي وغيرهم الثورة، وإن كان الفرق بين المفتي والأوقاف من جهة والبوطي من جهة ثانية كبيرا، فالتيار الأول يعبر عن مصالحه الخاصة المتمثلة ببقاء النظام، في حين يندرج موقف البوطي ضمن تقليد سني عريق ينبذ الخروج على الحاكم درءا للفتنة، غير أن خطأ البوطي تمثل في تبنيه خطاب النظام حول المؤامرة باعتباره السبب الوحيد للأزمة السورية.
 
الانقسام في صفوف رجال الدين عزاه كثير من المفكرين إلى أسباب سياسية وليست دينية، وإن غُلفت بحجج وتبريرات دينية نتيجة تداخل الحيزين الديني والسياسي معا، لكن هذا الرأي فيه تجنّ على موقف علماء الدين المؤيدين للثورة، فهم لم ينطلقوا من أسباب ومصالح سياسية، بل من مصلحة الأمة التي يجب أن تقوم على أسس العدالة وتحقيق الأهداف الإسلامية التي حال الحكام دون تحقيقها، على عكس رجال الدين الرافضين للثورة والمدافعين عن الأنظمة، فقسم من هؤلاء يستند إلى أسس سياسية مصلحية لبُست بلباس ديني.
 
هذا الموروث الثقافي على المستوى السياسي الذي استعرضنا جانبا منه ما زال جاثما ومؤثرا في السلوك السياسي العربي على المستويين الرسمي والشعبي، والأمر يتطلب تعديل هذا الموروث عبر تطوير المفاهيم سواء من داخل الثقافة الإسلامية ذاتها أو من خلال المفاهيم السياسية الغربية التي أضحت مفاهيم إنسانية وليست حكرا على الغرب.
 
* إعلامي وكاتب سوري.
0
التعليقات (0)