كتاب عربي 21

أمريكا تغير قناعها

صلاح الدين الجورشي
1300x600
1300x600
سيكون من السابق لأوانه الحكم على السياسات التي سيتبناها الرئيس الجديد للولايات المتحدة الأمريكية، لأنه يستبعد أن يلتزم هذا الرجل بكل ما أعلن عنه ووعد به خلال حملته الانتخابية، إذ يفترض أن تكون هناك مسافة بين خطاب الحملة وخطاب رئيس الدولة، لأن لكل مرحلة آلياتها وإكراهاتها، خاصة وأن الكثير مما وعد به ترامب غير قابل للتنفيذ، أو من شأنه أن ينعكس سلبا على الحلفاء التقليديين لواشنطن، وقد يتعارض مع مصالح أو ثوابت السياسة الأمريكية.

لكن المؤكد أن ساكن البيت الأبيض المنتخب يمثل حالة استثنائية وشاذة مقارنة بالرؤساء السابقين للولايات المتحدة، وسيكون من الصعب ترويضه من قبل الخبراء والمستشارين الذين سيختارهم لمساعدته على إدارة شؤون المرحلة القادمة، وهو ما يسمح بالقول إن الانقسام الذي حدث في المجتمع الأمريكي خلال المعركة الانتخابية الصاخبة قد يستمر وربما يزداد عمقا. 

سيبقى ترامب مثيرا للجدل بحكم رؤيته الخاصة للقضايا الداخلية أو الخارجية، إذ هو بالتأكيد قد اعتمد على نفسه بشكل رئيسي خلال معركته الشرسة ليس فقط ضد منافسته هيلاري كلنتون والحزب الديمقراطي، وإنما واجه أيضا النخب المثقفة ووسائل الإعلام الكبرى واستخفاف زعماء أوروبا بعنجهية، بل اصطدم حتى بالحزب الجمهوري الذي اضطر اضطرارا للتعامل معه بحذر رغم كونه خارج عنه وهو حاليا يقف بعيدا عنه. 

هو شخصية ذات مراس صعب، وذو طبع حاد، يمثل الأمريكي المتوسط الذي تبدو الحياة عندها قائمة على ثنائية الخير والشر. ومع ذلك سيكون من المستبعد أن ينتصر الفرد على المنظومة الأمريكية بكل حلقاتها، لأنه في النهاية يبقى ابن هذه المنظومة رغم نزعة التمرد التي يبدو عليها، وثانيا لأن السياسة لها قواعدها التي تفرض نفسها على الجميع، وإذا ما استشعرت هذه المنظومة وجود خطر من شأنه أن يهددها، فإنها تملك القدرة على إزالته من طريقها بوسائل مختلفة، وعندها قد يصبح سيناريو اغتيال الرئيس جون كيندي قابلا للتكرار مرة أخرى عند الاقتضاء. 

أصبح واضحا الآن أن الذين يستثمرون في حقل إشاعة الخوف وتحويله إلى أداة للصراع والتحكم في رقاب الآخرين ليس فقط من منتجات تنظيمي القاعدة وداعش والجماعات الشبيهة بهما، وإنما هي أيضا ظاهرة أوسع من ذلك بكثير. إنها نتاج عولمة تجر حاليا الإنسانية نحو مصير مجهول. ترامب ليس سوى أحد إفرازات هذا التدحرج نحو توسع دائرة الحرب ببعديها العسكري وبالأخص بعدها الرمزي.

ولو تم إخضاع خطابه الانتخابي للمقاييس التي غالبا ما يتم اعتمادها في مجال التحليل السياسي لصدقت توقعات الذين تنبئوا بفشله نظرا لخروجه عن سياق القيم الأمريكية المعتمدة لدى النخب الأمريكية الفاعلة وذلك بحكم تعارضها مع الحريات وحقوق الإنسان واحترام النساء إضافة إلى حمولة العنصرية الزائدة والفجة في خطاباته، وهو ما جعله يصطدم بالطبقة الحاكمة والنافذة في أمريكا من سياسيين ورجال أعمال وتكنوقراط.

لكن جاءت النتيجة معاكسة لتلك التوقعات لأن أزمة النظام الأمريكي بلغت مراحل متقدمة، وهو ما جعل ترامب ينجح في الكشف عن هذه الأزمة، ويتمكن من استقطاب شرائح واسعة من الأمريكيين القلقين والمطحونين والباحثين عن " أمل " جديد، والراغبين في عودة دور " الكوبوي " الذي يتحكم في الآخرين عبر القوة. هؤلاء صدقوه ولم يصدقوا كلنتون التي اعتقد الكثير من الأمريكيين بأنها لن تغير كثيرا من المشهد الراهن الذي خلفه وراءه أوباما والذي جاءت حصيلة ثمانية سنوات من الحكم باهتة ودون الآمال العريضة التي أوصلته إلى البيت الأبيض، وكان شعارها المحوري "نعم نحن نستطيع"، ولكن بعد التجربة تبين أنه لم يستطع أن يجسد وعوده على أرض الواقع. 

لن يستسلم النظام الأمريكي للرئيس الجديد، وسيعمل بكل آلياته السياسية والمالية والإعلامية والثقافية على تطويعه وعدم السماح له بأن يتحكم في مصير الأمريكيين بمن في ذلك الذين صدقوه وانتخبوه. لأنه في النهاية ليس لديه مشروع جديد يمكن المراهنة عليه، حتى وإن نجح في تعرية الوجه البائس من الحياة الأمريكية المرهقة. لكنه من جهة أخرى لن يكون محاورا جيدا ووديعا مع أوروبا وأمريكا الجنوبية والصين، وحتى روسيا التي شجعته وغازلته خلال حملته الانتخابية من أجل التخلص من الثعلوبة الديمقراطية، غير أنه سيكون من المستبعد جدا أن يصبح حليفا لها. 

أما منطقة الشرق الأوسط فيمكن أن تنعكس عليها بعض التغييرات التي ستطرأ على السياسة الخارجية الأمريكية المتوقعة. وإذا ما تم تصديق الرجل فيما صدر عنه من مواقف تجاه العالم العربي، فإن ذلك من شأنه أن يزيد من مضاعفة حالة الارتباك والفوضى التي تشكو منهما المنطقة حاليا. وفي كل الأحوال سيكون لفريق العمل الذي سيختاره دور هام في تعديل هذا المواقف أو الزيادة في تعميقها. أما إذا تمسك باختياراته التي أعلن عنها، فإن ذلك سيكون حقا نهاية لحقبة ما سمي بدفاع أمريكا عن العالم الحر، والتي أطلقها بريجنكسي وتمسك بها الرئيس كارتر، وتبعه في ذلك من تحملوا القيادة بعده وصولا إلى الرئيس أوباما. وعندها سيجد الجميع أنفسهم أمام أزمة دولية حقيقية، وسيدفع العرب بخليجهم ومغربهم ثمنا قاسيا.
       
التعليقات (0)