قضايا وآراء

الإعلام الجديد.. التحدي الأكبر بوجه الإعلام

يحيى اليحياوي
1300x600
1300x600
 ثمة حقيقة تاريخية وسوسيولوجية ثابتة، أبرزتها الدراسات النظرية، وأكدتها البحوث الميدانية، ومفادها القول بأنه لحدود الوقت الراهن، لم تستطع أداة إعلامية جديدة أو مستجدة، التجاوز على ما سبقها من أدوات، ولا تمكنت من إلغائها إلغاء تاما، أو تقويضها تقويضا نهائيا. فالإذاعة مثلا لم تلغ من حولها الصحافة المكتوبة، كما أن تطور التلفزة قد تم دونما أن يطال ذلك الإذاعة أو الصحافة المكتوبة أو السينما، أو ما سواها. 
 
بالمقابل، فإذا لم يثبت لحد الساعة، أن أداة إعلامية جديدة قد نجحت في تقويض ما سبقها من أدوات، فإنها قد نجحت في زعزعة مواقعها، والتقليص من مجال فعلها، وإعادة النظر في التوازنات الاقتصادية التي بنت عليها، إذا لم يكن مجدها، فعلى الأقل هيمنتها على السوق. 
 
عنصر المفارقة هنا أن تأثير الإعلام الإلكتروني على ما سبقه، أو ما يجاوره من وسائل إعلام أخرى، هو من القوة و"العنف"، ما يجعل عناصر ضعفها تبرز، والحلول من بين أيديها تتضاءل، والحيلة من بين ظهرانيها تشارف على الانتفاء. 
 
إن "الفاعل الجديد" (إعلاما "بديلا" وشبكات تواصل اجتماعي) قد بات باستطاعته توفير الكلمة والصوت والصورة والفيديو، وفق معايير خاصة به، تدمج في حامل واحد كل ما كانت تمرره كل وسيلة إعلامية بمفردها، وباستقلالية تامة عن الوسائل الأخرى. بالتالي، فإذا كانت هذه الشبكات قد أبرزت نقط ضعف الوسائل الإعلامية التقليدية، فإنها وبالآن ذاته، رُفعت بوجهها أشكال جديدة من المنافسة، لا قبل لها بها، اللهم إلا التأقلم والمسايرة، أو التقوقع والتراجع. 
 
إن القول بقدرة "الوافد الجديد" على زعزعة موقع ومكانة وتوازن وسائل الإعلام القائمة، إنما هو من الاعتراف لذات الوافد بثلاثة مكامن تأثير وقوة، نادرا ما توفرت لدى أداة إعلامية أو اتصالية سابقة: 
 
أما مصدر التأثير الأول، فيتمثل في قدرة الشبكات الرقمية على مطاولة وسائل الإعلام التقليدية في مضمونها، كما في شكلها، كما في آليات تواصلها مع المتلقين. الميزة الكبرى لهذه الشبكات أنها تقدم عروضا جديدة، بوظائف مستجدة، تشبه إلى حد بعيد ما دأبت الوسائل التقليدية على تقديمه، لكن مطعمة بما تقدمه التقنيات الرقمية من مرونة وتفاعلية وقرب، لطالما نشدها الإعلام بكل أشكاله وتلويناته، لكنه لم يدركها دائما، أو لم يدرك إلا جزءا بسيطا منها. 
 
الثابت، بالحالتين معا، أن الشبكات الرقمية إنما أسهمت في القضم بقوة من مجال هذه الفضاءات، ليس فقط باعتبار هذه الشبكات تقنيات للبث، بل أيضا لأنها تحولت إلى وسيلة إعلام قائمة، لها منطقها وبنيتها وهيكلها الخاص. 
 
فإذا كانت المنابر التقليدية قد عمدت، منذ البدء، إلى هيكلة عرضها وفق مبدأ الجمهور الواسع، فإن الشبكات الرقمية قد لجأت إلى تقنية "شخصنة الاستخدام"، بحكم الوفرة المتاحة، وتنوع العرض، وتعدد البنى التحتية المتيحة لهذه الخدمات، والممكنة لذات "الشخصنة". 
 
أما مصدر التأثير الثاني، فيبدو لنا كامنا في فقدان العديد من المنابر التقليدية لوضعية احتكار المعلومة، التي كانت تتمتع بها دون منازع في فترات ما قبل بروز وانتشار الشبكات الرقمية، أي في فترت ندرة المعلومات. 
 
وعلى هذا الأساس، فإن الوظيفة الأساس التي تأثرت بعمق بوصول الشبكات الرقمية، إنما وظيفة الإخبار، التي تعتبر القلب النابض لكل منبر إعلامي، مكتوب كان أم مسموع أم مرئي، وذلك على الرغم من تباين التأثير من منبر لمنبر، وقدرة كل واحد على امتصاص الصدمة، وبالتالي التأقلم والتكيف معها. 
 
من هنا، فإن قوة الشبكات الرقمية، لا سيما مع ظهور شبكات الإعلام الجديد، إنما تتمثل في الخاصية الطبيعية التي تتمتع بها حصرا، خاصية عدم خضوعها لإكراهات الانتظام في الصدور مثلا (كما الحال مع الصحافة المكتوبة)، أو توقيت البث والإرسال، كما حال الإذاعة والتلفزيون. بما معناه، أنه بإمكان الشبكات الرقمية أن "تبث" المعلومات بمجرد تحصيلها، وبإمكانها بالآن معا، استرجاعها وتخزينها وتحيينها وتطويرها، وفق ما يستجد من معلومات جديدة، وهو ما لا تستطيعه الصحافة المكتوبة أو المرئية أو المسموعة. 
 
ما يصدق على جانب الأخبار، يصدق أيضا وبالقطع على الخدمات الأخرى، التي تقدمها الشبكات الرقمية، لكنه ليس بمستطاع المنابر التقليدية تقديمها إلا في حدود معينة، بحكم ضيق الوقت، أو محدودية الحيز الورقي المرصود لها، أو بحكم طابعها المتخصص. 
 
أما مصدر التأثير الثالث فكامن في قدرة الشبكات الرقمية (خصوصا شبكات التواصل الاجتماعي) على استنبات استخدامات جديدة، وفي مقدمتها توفيرها وضمانها لمبدأ رجع الصدى، وإمكانات التبادل والتعبير الفردي، وهو ما ليس بمستطاع المنابر التقليدية، المنظمة وفق منطق عمودي، جامد، لا يعكس إلا بنسب ضئيلة ردود فعل المتلقين، أو يأخذ بعين الاعتبار مبدأي تشاركيتهم وتفاعليتهم. 
 
الشبكات الرقمية تمنح هنا "مستهلك المادة الإعلامية"، إمكانات الانتقال من وضعية سلبية وهامشية، لا يتعدى دوره فيها تلقي المعلومات من فوق، إلى "مستهلك" فاعل ومركزي، بمقدوره بظلها، التفاعل مع المعلومة والتعامل معها تعليقا وإغناء، لا بل وإسهاما في التصميم والإنتاج والترويج. 
  
0
التعليقات (0)

خبر عاجل