مقالات مختارة

ما الذي سيحدث بعد انفراج العلاقات التركية الإسرائيلية؟

يوسي ميلمان
1300x600
1300x600
هل باتت مهددة صفقة إصلاح العلاقات بين البلدين، والتي بدت قبل أسابيع محققة؟

كان للمحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا وما تلاها من أحداث تأثير قوي على العلاقات الإسرائيلية التركية، حيث كان من تداعيات ذلك تجميد عملية المصالحة بين البلدين بشكل كامل.

فالحكومة التركية منهمكة الآن في إحكام قبضتها على المجتمع من خلال قمع وتطهير المؤسسة العسكرية وجهاز المخابرات وعمليا جميع الدوائر الأمنية والهياكل المدنية للدولة، من أعدائها، سواء كانوا حقيقيين أم متوهمين.

وأما على المستوى الخارجي، فالرئيس رجب طيب أردوغان مشغول في تسعير مزيد من الحرب ضد الأكراد وفي إصلاح علاقاته مع بوتين، الرئيس الروسي. ومن الواضح أن نطاق اهتماماته الضيق لا يتسع لإسرائيل.

أخبرني مصدر كبير في وزارة الخارجية الإسرائيلية بما يأتي: "لا شيء يحدث على جبهتنا الآن، سواء خيرا أم شرا. فعلى الأقل لم يعد أردوغان يقرعنا ويهاجمنا كما كان يفعل من قبل. وبينما توجه وسائل الإعلام التركية التي تسيطر عليها الحكومة اتهاماتها إلى كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، فإن أي اتهامات لا توجه إلى إسرائيل بأنها متورطة من قريب أو بعيد بحركة التمرد التي وقعت هناك".

ومضى المصدر يقول: "العلاقات الآن مجمدة ولم تنفذ الاتفاقية التي تم التوصل إليها بين الطرفين. ولكن في الوقت نفسه تفيد الرسائل الواردة من أنقرة باستمرار، بأن شيئا لم يتغير وأنهم ملتزمون بالاتفاقية".

من المقرر أن يصوت البرلمان التركي على الاتفاقية قبل أن تبدأ إجازته الصيفية في وقت متأخر من هذا الشهر، هذا ما أفاد به وزير خارجية تركيا يوم الخميس، ولكن لا يملك أحد الجزم بما يمكن أن يحدث من الآن فصاعدا.

ما بعد سفينة مافي مرمرة

وبعد مرور أكثر من ستة أعوام على تدهور العلاقات بين البلدين بسبب الأحداث المأساوية المرتبطة بالسفينة مافي مرمرة، فقد توصل ممثلون عن البلدين في نهاية شهر يونيو (حزيران) 2016 إلى التوقيع في أحد فنادق روما على اتفاقية مصالحة بينهما.

"مافي مرمرة" هي السفينة التركية التي كان على متنها نشطاء "سلام" أتراك ومن مختلف أنحاء العالم أرادوا أن يكسروا الحصار الإسرائيلي والوصول إلى قطاع غزة. وكانت السفينة قد اشتريت في عام 2010 من قبل "إي ها ها" وهي منظمة خيرية تركية غير حكومية تنشط في أكثر من 115 بلدا.

إلا أن مصادر المخابرات الإسرائيلية زعمت أن "إي ها ها" كانت تهرب أسلحة لصالحة جماعات إرهابية ترتبط بتنظيم القاعدة. وكانت وزارة الخارجية الأمريكية في عام 2010 قد أعربت عن قلقها الكبير بشأن ما بين هذه المجموعة وكبار المسؤولين في حركة حماس من روابط.

وفي مايو 2010، وبينما كانت السفينة تبحر باتجاه غزة، فقد اعترضتها البحرية الإسرائيلية وأوقفتها.

من وجهة النظر الإسرائيلية، فإن معظم من كانوا على متن السفينة من ركاب إرهابيين أو على الأقل عناصر محرضين، كانوا مسلحين بالهراوات والسلاسل والمضارب، وما جاءوا إلا ليثيروا المشاكل ولم يكن هدفهم إغاثيا.

ونجمت الاشتباكات عن مقتل تسعة من المواطنين الأتراك وإلحاق المهانة بواحدة من أفضل وحدات المغاويير الإسرائيلية، الوحدة البرمائية رقم 13.

 الاحتياجات التركية

تشتمل اتفاقية المصالحة على مواضيع دبلوماسية واقتصادية وذات ارتباطات أمنية. بالنسبة للجانب الإسرائيلي كان أسوأ بند فيها هو الاتفاق على دفع تعويضات قيمتها 20 مليون دولار لعائلات الضحايا.

للمقارنة فقط، كانت إسرائيل – وبعد تردد ومماطلة – قد دفعت مبالغ أقل بكثير نسبيا لعائلات ضحايا السفينة الأمريكية ليبرتي، وهي سفينة التجسس التابعة لوكالة الأمن الوطني في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي كانت تبحر قبالة شاطئ شبه جزيرة سيناء أثناء حرب عام 1967، حينما اشتبه سلاح الجو الإسرائيلي بها خطأ ظانّا إياها سفينة معادية، فشن عليها هجوما أسفر عن قتل 34 من طاقمها.

من الجدير بالذكر أن تركيا كانت بحاجة إلى الاتفاقية أكثر بكثير من حاجة إسرائيل إليها. فقد أخفقت سياسات أردوغان الخارجية والأمنية إخفاقا تاما منذ اندلاع الحرب الأهلية الدموية في سوريا قبل خمسة أعوام، حيث كان قد أعلن أن سياسته تقوم على أساس "صفر" مشاكل مع دول الجوار، إلا أن العكس تماما هو ما اتسمت به سياسته: فقد وجدت تركيا نفسها في صراعات مع نظام بشار الأسد في سوريا ومع روسيا وإيران ومع تنظيم الدولة الإسلامية والأكراد داخل البلاد وداخل سوريا في الوقت نفسه.

المطالب الإسرائيلية

 ومع ذلك تتضمن الصفقة الجديدة بعض العناصر الإيجابية والفوائد التي تعود على إسرائيل.

وخضعت تركيا للضغط الإسرائيلي ووافقت على إغلاق مكتب أسسه "عز الدين القسام" الجناح العسكري لحركة حماس. وكما كشف فيما بعد مسؤولون في المخابرات الإسرائيلية في تقرير لهم، فقد كان نشطاء حماس يستخدمون هذا المكتب لتوجيه الأوامر وإرسال الأموال وإدارة العمليات الإرهابية ضد إسرائيل وضد السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة.

وتمكنت وكالة الأمن الإسرائيلية، التي تعرف أيضا باسم شين بيت، في عام 2015 من إحباط عدد قليل من المحاولات من هذا النوع، كانت أكبرها قبل عام واحد تقريبا عندما ألقي القبض على العشرات من أعضاء "حماس" وتم اكتشاف مخازن للسلاح.

كانت الأوامر قد صدرت لهم مباشرة من صالح العاروي، القائد العسكري في حركة حماس الذي كان يتخذ من تركيا مقرا له والذي استفاد من الحماية الشخصية التي كان يوفرها له حاكان فيدان، رئيس منظمة المخابرات الوطنية التركية.

أصدر أردوغان أوامره بطرد العاروري قبل عدة أشهر، ما سبب الاستياء لدى فيدان الذي لم يكن يحب إسرائيل، والذي حاول على مدى السنوات الست الماضية تجنب اللقاء مع نظرائه في الموساد الإسرائيلي. وقلما اجتمع مع تامر باردو، المدير السابق للموساد أو حتى مع سلفه يوسي كوهين، وبادر بتقليص العلاقات بين الوكالتين إلى حدها الأدنى.

وتشكلت لدى الموساد شكوك بأن فيدان كان مواليا لإيران، واتهمته مصادر المخابرات الأمريكية بتزويد إيران بالمعلومات حول شبكة تجسس إسرائيلية تعمل داخل الأراضي الإيرانية، الأمر الذي أفضى إلى اعتقال عدد من المواطنين الإيرانيين.

 النجاح الآخر الذي حققته الحكومة الإسرائيلية من الاتفاق مع تركيا هو أن الحصار المفروض على غزة لم يرفع. وعلى النقيض مما يدعيه أردوغان ويتفاخر به فإن المساعدات الإنسانية التركية المتجهة إلى غزة سترسل عبر ميناء أشدود الإسرائيلي.

وهناك سوف تفتش لضمان أنها لا تحتوي إلا على مواد ذات طابع إغاثي إنساني – مثل الغذاء والدواء والألعاب – وسيتم من هناك نقلها بواسطة شاحنات إسرائيلية مثلها مثل كل البضائع الأخرى التي تدخل إلى غزة. وكانت واحدة من هذه الشحنات قد أرسلت فعلاً من قبل تركيا بعد إبرام اتفاقية روما وقبل أيام فقط من وقوع حركة التمرد.

وجنت إسرائيل بعض الفوائد الأمنية من الاتفاق جرى تجاهلها أو لم تحز على اهتمام إعلامي بها، ومن ذلك على سبيل المثال أن البرلمان التركي سوف يسن تشريعات تحظر مقاضاة الضباط أو المسؤولين الإسرائيليين المتورطين في حادثة مافي مرمرة داخل المحاكم التركية.

ويذكر أن عددا من المحاكم التركية بادر إلى إصدار مذكرات ضد بعض كبار الضباط الإسرائيليين.

ووعدت تركيا بألا تعارض انضمام إسرائيل إلى النشاطات التي ينظمها حلف شمال الأطلسي (الناتو) وإلى المنتديات الدولية الأخرى.

علاقات استخباراتية تاريخية

وبدأت العلاقات الأمنية والاستخباراتية الخاصة بين البلدين في النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين. فبتشجيع من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا شكلت أجهزة المخابرات الإسرائيلية (الموساد) والإيرانية (السافاك) والتركية (إم آي تي) فيما بينها كيانا استشاريا ثلاثيا بات يعرف باسم حلف "ترايدنت".

وكان رؤساء الأجهزة الثلاثة يجتمعون سنويا ويتبادلون المعلومات حول أعدائهم المشتركين – مصر وسوريا والعراق. وصلت العلاقات بينهم إلى ذروتها في الخمسينيات، ثم انتهت مشاركة إيران بعد اندلاع ثورة 1979. إلا أن التعاون الاستخباراتي الإسرائيلي التركي وتبادل المعلومات بين الطرفين استمر حتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ووصل ذروته في منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة، ثم ما لبث أن انتهى بعد أن قرر أردوغان الانسحاب.

وأصبحت تركيا سوقا مهما تقدر قيمة مبيعات المنتجات العسكرية والأمنية الإسرائيلية إليه بعدة مليارات من الدولارات. لقد باعت المؤسسات الصناعية الأمنية الإسرائيلية طائرات من غير طيار ومعدات تجسس وساهمت في تحديث الطائرات الحربية والدبابات التابعة للجيش التركي.

وزودت تركيا إسرائيل بالمعلومات التي حصلت عليها حول سوريا والعراق وإلى درجة ما حول إيران من جواسيسها ومن مواقع التنصت التي أقامتها الولايات المتحدة الأمريكية. وبالمقابل، طلبت تركيا وحصلت على معلومات توفرت لدى المخابرات الإسرائيلية حول المنظمات الكردية وخاصة ما تعلق منها بحزب العمال الكردستاني.

وكان مسؤولو الموساد يلتقون بشكل دوري مع زملائهم في جهاز المخابرات التركي إما في أنقرة أو في إسطنبول أو في تل أبيب. وفي بعض هذه اللقاءات شعر كبار المسؤولين في المخابرات التركية ممن كانوا مكلفين برصد تحركات عناصر حزب العمال الكردستاني بنوع من الأريحية والحميمية لدرجة أنهم سألوا نظراءهم الإسرائيليين إذا ما كانوا على استعداد لتقديم يد العون لهم في اغتيال الإرهابيين الأكراد. وكان الإسرائيليون يكتفون بالاستماع بأدب، لم يعلقوا على ما طلب منهم، ولكنهم تجاهلوه.

كل هذا انتهى عندما بادر رئيس الوزراء التركي حينذاك – الرئيس الحالي – أردوغان تغيير مسار السياسة الخارجية التركية وتوجهها.

لقد بات واضحا لدى المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين أنه بمجرد البدء في تطبيق الاتفاقية، فإن الفترة الذهبية من التعاون العسكري والإستخباراتي الوثيق بل والحميم بين إسرائيل وتركيا تكون قد انتهت.

* يوسي ميلمان: معلق إسرائيلي مختص بالشؤون الأمنية والاستخباراتية وأحد المشاركين في تأليف كتاب "جواسيس ضد أرماغدون".

(عن صحيفة “ميدل إيست آي” البريطانية، مترجم خصيصا لـ”عربي21”)
0
التعليقات (0)