كتاب عربي 21

في انتظار الحكومة القَمْقُومَة

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
عبث، عبث، عبث ما كان لصموال بكيت أن يتخيله وهو ينتظر قودو نحن نعيشه معتقا في انتظار الحكومة القمقومة. والقمقوم(ة) مديح جزل نرفع به من نحب وقد نحط به من يخيب ظننا في سياق تسمية الأشياء بنقيضها. وأعتقد أن حكومتنا القادمة ستكون قمقومة وستكون قادرة على الخروج من المصباح وتحقيق المعجزة. وها نحن نحك المصباح حكّا لتخرج علينا معجزة لا دليل عليها ولكن أثرها سيكون عفريتا من الجن قادر على تذويب بلقيس وعرشها. وفي انتظارها وعلى قارعة طريق البلد الصغير في التيه الكبير لن نمجد طعم القهوة ولكننا نجمع الدروس في كراس للأجيال التي ستلعننا كما نشأنا نلعن أهل الأندلس إذ ضيعوا الأندلس.

نخبة سياسية ساقطة

الانقلاب التركي بعد الانقلاب المصري انضافت للبكاء على القذافي وعلى الموقف من ذباح سوريا لتكشف انقسام النخبة حول المسألة الديمقراطية ونفاقها المشترك في اللحظات الحاسمة. وأعاد طرح موضوع الاصطفاف السياسي في عمليات التحول والتغيير. الديمقراطية طريق لتملك السلطة وهذه ليست فضيحة ولكنها طريق طويلة وشاقة تقتضي من كل ديمقراطي الصبر والتريث والعمل الدؤوب وسط الناس لإقناعهم بالطرح البديل ثم القبول برأيهم الانتخابي الذين لا يحدث تغييرا سريعا. لكن الانقلاب خطوة واحدة يجد المنقلب بعدها السلطة بين يديه كاملة فيستعملها كاملة واستعمالها بعد انقلاب غير استعمالها في الديمقراطية. القمع وتكميم الأفواه وإعدام صوت المعارضات المحتملة حركات ضرورية بعد كل انقلاب والأمثلة كثيرة. 

جوهر الانقلاب هو التغيير الفوقي وفرض الرأي الواحد والتغاضي عن مدى القبول به شعبيا. ولا يشفع له خطاب الإنقاذ و/ أو  توسل القوة الوطنية الذي زين دائما لغو الانقلابيين في كل مكان. هذا فضلا عن أن خريطة الانقلابات منذ الخمسينات كشفت أنها تخصص عالم ثالثي لا يتم مثله في الديمقراطيات التي استقرت وأنتجت تداولا سلميا على السلطة. بما يفتح باب القراءة التآمرية على مصراعيه وفي المنطقة العربية نجد أنه ما من انقلاب وإلا وقد خططته دوائر استخبارتية أجنبية غربية بالأساس تصطنع لها طغمة عسكرية وتجد لها أيضا سندا من تيارات سياسية غير شعبية وعاجزة أن تكون شعبية. فتشجعها وتتبناها وتدعمها لاحقا وتتظاهر بتعليمها حقوق الإنسان وتحذرها من مغبّة الإفراط في القوة دون أن تحدد الحد الأدنى المسموح به للقوة ولا الحد الأقصى أيضا.

ليلة انقلاب تركيا رأينا ذلك رأي العين وعرفنا وخبرنا الانقلابيين العرب وفرزناهم من الصابرين على الديمقراطية ورب درس نتعلمه في ساعات.

اليسار العربي وجمهور الحداثة الليبرالي صفق للانقلاب فأثبت طبيعته الوحيدة هذا اليسار وهؤلاء الحداثيين أعداء الديمقراطية. يتظاهرون بممارسة السياسة ويعلون مبادئ التوافق ويشرعون للتنازلات ولكنهم يزغردون للانقلابات العسكرية.

كيف يستوي الأمر في أذهانهم وهم الحداثيون التقدميون أي الموقفين نصدق ونعتمد؟ فالفاصل بينهما 180 درجة من المعقولية. إنه تناقض جذري في منوال التفكير فالأمران لا يستقيمان في ذهن واحد لا يمكن لمن يؤمن بالديمقراطية أن يمجد الانقلابات. فإذا فعل صار إيمانه مدخولا صار الحذر منه واجبا.

لقد فضح الانقلاب التركي بعد الانقلاب المصري نخبتنا السياسية التونسية خاصة والعربية العربية. زغاريد أول الليل التي انقلبت مناحة في منتصفه كشفت طينة نخبتنا على طول الخريطة. ولكن بالنظر إلى الوقائع التي نرى فإننا نعتبرهم "ديمقراطيين في انتظار انقلاب". لكن ما سر هذا الحماس للانقلابات والتظاهر بالديمقراطية والاحتكام إلى الصندوق؟

الإسلام السياسي هو العدو

لا داعي للمداورة واللف يحتاج الأمر إلى شجاعة صعاليك لكن للصعاليك ميثاق شرف ولنخبتنا تخمة الجشع. فأجشع القوم أعجل. الخط السياسي الإسلامي العابر للدول والذي أخرجته الثورة العربية من الظلمات إلى النور دخل لعبة الديمقراطية وربح جولتها الأولى وكان النظام التركي أحد مسانديه ومموليه والمدافعين عنه. فحسب عليه وحسبت الأحزاب الإسلامية (الإخوان والنهضة) عليه.

لكن مسار الديمقراطية انكسر في مصر بواسطة انقلاب دموي عاداه الأتراك وهو أمر منسجم مع خطهم وناصره اليسار العربي بشقوقه المختلفة ولم يخجلوا أنهم وقفوا معه في الوقت الذي كانت فيه أقوى الرجعيات العربية ترفده بالمال والسلاح ليقوم ويحكم ويبيد الحزب الإسلامي. كان هدف هذا اليسار واضحا حتى أعتى الرجعيات تصبح تقدمية ما دامت تعادي الإسلام السياسي الذي يربح بالصندوق ويدافع عنه.

لقد تم استثمار الانقلاب المصري في تونس وهدد الحزب الإسلامي بمصير مماثل فآثر الانحناء وزين انسحابه المهزوم بخطاب التوافق. ولساعات قليلة بشر انقلاب تركيا بالإجهاز على الحزب الإسلامي نهائيا. وفرك القوم أكفهم وتبادلوا التهاني وربما وضعوا خطط التنفيذ.

وكل ذلك في أجواء تأليف حكومة مدنية على أسس الدستور المدني الذي وافقوا عليه وصفقوا له. وهو ما يعيدنا إلى اللحظة التونسية الخاصة. كيف لديمقراطي يفاوض على المشاركة في حكومة مدنية أن يزغرد لانقلاب عسكري يحطم خصومه الذين يفاضوهم؟

هنا جوهر المسألة: أحد طرفي التفاوض غير مؤمن بالنتيجة مسبقا. لذلك يعمل على قطع الطريق عليها إنه لا يقبل خصمه/ شريكه بالضرورة في الوطن والتاريخ ولا يؤمن بالتعايش معه. وإذا كان رضخ لطاولة التفاوض فليس لأنه ديمقراطي بل لأنه أعجز من أن يقوم بانقلاب إنه يفاوض عاجزا مرغما ويتشهى انقلابات الآخرين كما يتشهى مخصي امرأة جميلة تمر أمامه مع حفظ الفارق بين الانقلاب والجمال.

لكن هل الطرف الإسلامي ديمقراطي فعلا؟

الصورة واضحة الآن في تونس حتى اللحظة عجز الانقلابيون عن إلغاء حزب النهضة من المشهد السياسي رغم الجهد المتكرر. لكنهم بالتهديد بالانقلاب فقط (وهم العاجزون دونه) يلزمون حزب النهضة بأن يكون نواة تسند زيرا. أي إن الحزب وكتلته النيابية صالحون لأمر واحد فقط الموافقة على الحكومات دون المشاركة فيها بل تطبيق برنامجها دون الاعتراض عليه. وكل خطاب متمرد يرفع في وجهه الانقلاب. لكن هل هذا الخوف حقيقي أم مصطنع لغاية؟ 

إن الإضرار بالديمقراطية لا يقف عند الانقلابي المرغم على التفاوض بل عند الطرف المقابل أيضا أي الحزب الإسلامي الذي لا يجد الشجاعة ليرفض الجلوس مع انقلابي ويتحمل مسؤوليته الأخلاقية والسياسية في فرض مشتركات ديمقراطية حول الطاولة.

إن الإضرار بالديمقراطية في لحظة تشكيل الحكومة المدنية مشترك بين العدوين اللدودين. يصدر الإسلامي تبريرات خائفة (إذا كانت تركيا القوية تتعرض لانقلاب فكيف بتونس الصغيرة؟). 

إن الجلوس مع انقلابي دون إلزامه بكشف حسابه الديمقراطي يكشف نية الطمع في السلطة أكثر من الإدعاء/التظاهر بحماية الديمقراطية التداولية. يعرف الحزب الإسلامي أنه غير مرحب به محليا ودوليا وبخلفية تفكير انقلابي لا ديمقراطي (استئصالي) ويعلن ذلك لكنه لأنصاره ولمحيطه لكنه يواصل المشاركة في الاعتداء على الدستور أنه الاشتراك في جريمة إسقاط دستور بذل من أجله شهداء كثر. هذا هو مدار المعركة حول الانقلابات وحول تشكيل الحكومة. أي حول طرق التعايش وصناعة المستقبل. 

هذه الحكومة القمقومة إذن تتشكل من قبل عفاريت لكن جبناء. أحدهما يهدد بما لا يملك والآخر يخاف من وعيد فارغ. ولكن هذا لا يتم بحسن نية فلا أحد بريء حول الطاولة. بل هو نظام مصالح يتشكل بصخب مرة وبصمت غالبا ليتم توزيع منافع سلطة غير شعبية بين شركاء لا يحبون بعضهم ولا يشفقون على وطنهم لكنهم يحبون مصالحهم. في لحظة الفرز على قاعدة الديمقراطية يتورط الطرفان في تقاسم السلطة ويخرجون حكومة من قمقمهم لكنها حكومة لا تفتح كنوزا. بل تسرقها وتعيد توزيعها إلى حين.

هذه الأيام نحن نعيش وضع السيد لوكي (Lucky) أمام السيد بوتزو (Pozzo) في المسرحية العبثية لذلك لم نعد نبكي ثورتنا الصغيرة بل نمارس الشفقة على بلدتنا وهي تدخل نفقا مظلما. سيقول لنا مروجو الأوهام من ساستنا إن نورا يلوح في آخر النفق وسنقول لهم هو ضوء قطار الدهر يعترض مسيرتنا الفاشلة. فمن يهن يسهل الهوان عليه.
التعليقات (0)