حكم القوي على الضعيف.. مأساوي العواقب ومخيف

لماذا يحسب العسكر دون سائر أهل المهن والحِرف الأخرى أنهم أجدر بالاستيلاء على الحكم في أي بلد، وتحت أي ذريعة؟ فهم ليسوا أطول باعا أو فهما من المدرسين أو المحاسبين أو المحامين أو سائقي التاكسي، والقوات المسلحة في أي بلد مهمتها الأساسية حماية البلد من العدوان الخارجي، ولكن 97,6% من البلاد التي يحكمها العسكر لم تتعرض لعدوان خارجي أبدا، وحتى في حال وجود عدو خارجي فإن العسكرتاريا الحاكمة، تميل إلى الطبطبة عليه والتصالح معه، فالعدو الرئيس لكل حكومة عسكرية هو الشعب، ومن ثم فإن كل مقدرات الجيش تكون موجهة لاستئصال “أعداء الوطن والوحدة الوطنية”، وهي الصفة التي يتم إطلاقها على دعاة العودة إلى الديمقراطية.
 
 في تركيا نصب العسكر أنفسهم أوصياء على جمهورية أتاتورك، وذاقوا حلاوة السلطة لأول مرة في 27 مايو من عام 1960 بعد أن أحسوا بأن رئيس الوزراء عدنان مندريس “مسّخها”، بأن سمح ببناء المزيد من المساجد، ورفع الآذان باللغة العربية، وتم إعدام مندريس كي لا يقول هو أو غيره أنه الزعيم المنتخب من قبل الشعب، وحاول العسكر إضفاء طابع مدني على حكمهم بأن جعلوا في الواجهة بعض المدنيين، وطبعا في كل بلد “مسقفون” مستعدون لركوب كل موجة تضعهم في دائرة الضوء، فسلم عدد من التكنوقراط الأتراك رقابهم للعسكر.
 
 وفي عام 1971 ساءت الأوضاع الاقتصادية وبلغت نسبة التضخم أكثر من 80%، في فترة كان يرئس فيها الحكومة سليمان ديميريل، وتدخل رئيس هيئة أركان الجيش التركي وأرغم الرجل على الاستقالة “لإنقاذ البلاد من الإفلاس” وأتى بطرطور اسمه نهاد إريم من حزب الشعب الجمهوري ليكون رئيسا لحكومة انتقالية، وأتى بعده عدة طراطير، ثم تم تسليم مقاليد الأمور لجنرال متقاعد من البحرية اسمه فهري كوروتيرك، بعد فيلم هندي، قضى السيناريو الخاص به أن يتم اختياره من برلمان صوري.
 في عقد السبعينات تولى أحد عشر شخصا منصب رئاسة الوزارة في تركيا، ولكن حال البلد واصل التردي واشتعلت المناوشات بين القوى اليمينية واليسارية وراح الآلاف ضحايا عمليات اغتيال و”العساكر يشربون الخمر في ساح الشهيد”، وتحت تأثير الخمور السائلة وخمر السلطة تحرك الجنرالات في سبتمبر من عام 1980 واستولوا على السلطة، وصار الجنرال كنعان إيفيرين رئيسا للجمهورية، بينما صار بولنت أولوسو (من سلاح البحرية) رئيسا للوزراء، ثم تمت إزاحته وإسناد المنصب لتورغوت أوزال.
 
 وكي ينفي عن نفسه شبهة معاداة الإسلام والمسلمين في وقت صار فيه لحزب الرفاه ذي التوجه الإسلامي بقيادة نجم الدين أربكان جماهيرية محسوسة، قام الرئيس الجنرال إيفيرين بأداء فريضة الحج، فجعله ذلك عرضة للغمز واللمز، بأنه خالف التعاليم الأتاوركية وأتى أمرا إدّا، فما كان منه إلا وأن نزل مع زوجته الماء بملابس البحر في سباحة متلفزة ليؤكد أن الحج لا يعني أنه وزوجته “مسلمان ملتزمان”.
 
 وفي انتخابات عام 1995 فاز حزب الرفاه بقيادة نجم الدين أربكان بأغلبية مقاعد البرلمان، فقال له العسكر “ستحكم في المشمش”، بل إن نائبة برلمانية عن الحزب اسمها مروة قاوقجي فقدت مقعدها لأنها?—?يا للعار?—?دخلت البرلمان وهي ترتدي الحجاب، في خرق صريح للدستور التركماني الذي يقوم على علمانية ابتدعها كمال أتاتورك، ثم اكتشفوا?—?يا للهول?—?أن مروة تحمل جواز سفر أمريكي، ورغم ان القانون التركي يسمح بازدواج الجنسية، إلا أنهم ومن باب “ابعد عن الشر ولا تغن له” جردوها من جواز سفرها التركي، وأبعدوها إلى الولايات المتحدة، رغم أن تركيا ظلت طوال عهود الحكم العسكرية شبشبا في قدمي أميركا.
 
 ثم أدرك العسكر أن إرغام حكومة أربكان على منع التعليم الديني في مراحل التعليم الأساسي وحظر ارتداء الحجاب لن يكفيا لضمان استمرار العلمانية الأتاتوركية، قاموا بحظر حزب الرفاه، واضطر بعض أعضائه الأذكياء إلى تشكيل حزب الفضيلة، ثم أدركوا أن اسم الحزب لن يبعث الطمأنينة في نفوس العسكر، فاختاروا اسم “العدالة والتنمية” الذي ظل يحكم تركيا منذ عام 2002 بعد أن طرح نفسه كحزب إسلامي متمسك بعلمانية الدستور، وصار عبد الله غل رئيسا للجمهورية ولكن حاق به غضب العسكر لأن زوجته ظهرت محجبة في العيد الوطني لتركيا
 
 وقبل أيام قليلة تواطأ عدد من كبار العسكر في تركيا لقلب نظام الحكم فانقلبت عليهم الأمور، وفقدوا النجوم والتيجان التي كانت على أكتافهم، وارتدوا عوضا عنها قلائد حديدية في أيديهم ويقبعون الآن في زنازين، كتلك التي كانوا يعتزمون سجن الشعب التركي فيها.
 
 دعك من تركيا، وانظر حال أي بلد عربي يرزح تحت “بوت” العسكر، وستكتشف أن أندية كرة القدم الكبرى فيه تدار بكفاءة أكبر من تلك التي يدير بها العسكر الوطن وشؤون المواطن، مما يعيدني إلى جانب مما قلته في الفقرة الأولى في هذا المقال بأنه ليس هناك ما يبرر “الوهم” الذي يعيش فيه بعض العساكر بأنهم أصلح فئات الشعب لإدارة شؤون الحكم، وأقول بعد رصد أحوال هذا البلد أو ذاك الذي يحكمه ضباط، إن تلك الأحوال كانت ستؤول إلى ما هو أفضل لو آلت السلطة إلى إدارات أندية كرة القدم فيه.