قضايا وآراء

الغنوشي وتلك القفزة الواسعة للأمام

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
يعد الشيخ راشد الغنوشي بحق وحقيق، أحد أعظم الشخصيات في تاريخ حركة (الإصلاح الإسلامي)،  وهو تطور أصيل لرجالات الحركة الإصلاحية الكبار الأفغاني وعبده ورضا والبنا، وكل ثمار وغصون تلك الشجرة المباركة، وخطوات الرجل واجتهاداته الفكرية والسياسية تقوم على قاعدة علمية وفكرية صلبة للغاية، وهو ما لم يتكرر على الإطلاق في التاريخ المعاصر_ من منتصف السبعينيات_ للحركة الإسلامية حتى الآن..ولعل ذلك يفسر حالة الحساسية الخاصة منه داخل (التيار الإسلامى العريض)..وهي محض حالة (غيرة) مجردة من كل أدبيات الخلق الإسلامي النبيل ..مصر مثلا البلد الذي ترعرعت فيه الحركة والنبتة الأولى، لم يخرج منها طوال الأربعين عاما الماضية شخص بقيمة وعقل الشيخ راشد ..ليس هذا فقط، بل إن كثيرا من المتابعين يقولون إنهم كانوا يريدونه تابعا ولا يجرؤ على الانتقال في مساحات الفكر وتطوره دون الرجوع إليهم واستئذانهم !! ..في حين أنهم على كل مستويات الحكم عليهم خواء في خواء .. لا سياسة ولا فكر ولا فقه ..ولا أي شيء ..فقط القيود التنظيمية الصارمة اليت تشبع حظوظ النفس وأهواءها آلاف المرات، قبل أن تفي بحقوق وحظوظ الدين والوطن.

ومثلث (الكبر والطمع والحسد) لا تكاد تخلو منه تجارب البشر عبر مواكب الأجيال.. في (الكبر) كان إبليس _ "أنا خير منه" _ وفي (الطمع) كان خروج سيدنا آدم عليه السلام من الجنة _ "فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما"_ وفي (الحسد) كان موقف أحد أبناء آدم من أخيه _ "قال لأقتلنك" _ والتقي النقي العاقل الحكيم من يعي خطورة ذلك المثلث اللعين.. ويضع نصب عينيه دائما الآية الكريمة (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) النحل 96.. وللجامعة ابن داوود أحد ملوك بني إسرائيل خطبة شهيرة جامعة لمعان شديدة النفاذ إلى القلوب والعقول (كل ما خلا الله باطل.. بل باطل الأباطيل.. دور يمضي ودور يجيء.. والأرض قائمة.. والشمس تغرب.. والريح تذهب للجنوب وتدور للشمال.. كل الأنهار تجري إلى البحر والبحر ليس بملآن.. العين لا تشبع من النظر.. والأذن لا تمتلئ من السمع.. فالكل باطل والكل قبض الريح). ناهيك طبعا عن الفهم العميق لهذا السباق المحموم كل يوم نحو الموت والمسمى (بالحياة).. وما الدنيا إلا واحة في الطريق وليست نهايته.. فكلنا نجري للأمام في اتجاه الفناء؛ تأهبا لساعة اليقظة الحقيقية (الناس نيام وإذا ما ماتوا انتبهوا)..ولهذه المعاني حديث يطول.

ونحن نتابع وقائع المؤتمر العاشر لحركة النهضة التي حضره افتتاحها رئيس الجمهورية، وما في ذلك من إشارة قوية إلى  تحقق ما أعلنه الرجل من أن حالة الخصومة والعداء مع الدولة الحديثة انتهت بلا رجعة.

دعونا نقترب من فهم  فرضية تاريخية تقول إن (الدعوة الدينية) حينما تتحول إلى (سلطة سياسية) لا يكون الأمر مرحبا به بدرجة كبيرة.. وإن (الدعوة الدينية) حين تكون طليعة الأمة في إقامة الدين والحفاظ على الحقوق وصون الحريات من ظلم الحكام  .. ناهيك عن أن اهتمامها الأعلى والأسمى بحق الدعوة في المجتمع وبين الناس في كل المجالات، حين يكون الحال كذلك فإن الصورة تكون بديعة ومشرقة للغاية.. وهذا لا يعني أن يكون الإسلاميون بعيدين عن معادلة الحكم والسلطة.. فهذه المعادلة لها من الأهمية في الفهم الإسلامي مساحة معتبرة.. لكن الأمر يختلف حال كونهم يباشرون السلطة تحت عنوان ديني . وبين حال كونهم يدعمون سلطة تمارس حكما رشيدا، صالحا وأيضا يعارضونها حين تخطئ وتستبد.

التاريخ يشهد على تجارب كثيرة في تحول الدعوة الدينية إلى الحكم والسلطة..وإلى الحركة في السياسة بأدوات الفقه ..والتعبير عن الخلاف في السياسة بمفردات الفقه . كل هذه التجارب مفتوحة على تفسيرات كثيرة ومهمة في معضلة الإصلاح والتوفيق بين ما هو دعوي وما هو سياسي وحزبي..والوجود في السلطة أم الوجود الأقوى في المجتمع ؟ وتأثير كل ذلك على الدين والدنيا معا .

ولعل أفق الرؤية يتسع أكثر وأكثر لنرى التاريخ الصحيح وهو يتشكل أكثر وأوضح أمام أعيننا في اتجاه الوجود الأمثل والأشرف للدعوة في المجتمع القوي ..أمام السلطةِ الكاسرة القاهرة ..إذ ليس في القنافذ أملسا كما يقولون.. وتتحول الدولة الحديثة (الديناصور) في وعي الإنسان الشرقي إلى الدولة (الخادمة) تأسيسا على المفهوم الإسلامي الأمثل.

نتطلع في كل البلدان التي بها تيار سياسي إسلامي، لأن يقتفوا خطوات الشيخ راشد وحركة النهضة دون كبر ونكران وجحود للفضل .. وأن يعتبروا أن ذلك تطور طبيعي وتاريخي ومبارك لجهود وجهاد السابقين والأولين من رجالات الفكر والحركة الإسلامية عبر تاريخها كله .
التعليقات (0)