كتاب عربي 21

المُرْبِكَة التّونسية

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
أحدهم ترجم لفظ (Puzzle) اللاتيني بالمُرْبِكَة فجنبنا عناء كتابة اللفظ بغير الحرف العربي لكنه لم يساعدنا على ألاَّ يكون هناك مربكات في مكان ما نشقى بفهمها ونرتبك أن لا نصل إلى عمقها ونخجل أكثر أن نقع في وهم عمقها وهي من السطحية بمكان، بين توهُّم التعقيدات الإقليمية ودورها في توجيه السياسة في تونس وبين غرائزية النخب المتحكمة في المشهد نحتار في اتجاه التحليل. هل الأمر أعقد من فهم سلوك سرب من الجوائح التي لا تكف أبدا عن التقاتل حول جثة واحدة رغم أن الصيد وفير؟

الجثة الانتخابية الحية

تنقل رئيس الدولة مرتين خلال شهر أفريل (نيسان) وتم تنظيم استقبالين شعبيين بنفس تقاليد الاستقبالات التي كانت تنظم لبورقيبة وبن علي مع تغطية إعلامية  صاخبة ودعائية. حواجز حديدية فاصلة بين الزائر والجمهور. الأمن الكثيف المحيط، والابتسامات الصفراء والتحية بالأيدي دون تماس مباشر (مع نقل المتفرجين بالباصات). وهو التقليد التاريخي الذي حطَّمه الرئيس المرزوقي طيلة مدته التأسيسية، حين كانت تنقلاته التحاما حقيقا مع الناس وتماسا مباشرا وأخذا بالأحضان.

الإدارة الرئاسية الجديدة فضلت العودة إلى الصورة السابقة الزعيم الخارق والجمهور المعدي (أو المخيف). لكن الجمهور كان موجودا فعلا وهذا هو عنصر الإرباك الحقيقي. فمن هو هذا الجمهور؟ إنه ليس جمهورا فضوليا جاء يتفرج في كائن غريب، بل جمهور متحمس حضر بعضه بلباس المحاماة (المنستير).

جمهور الحزب القديم مازال هنا لم يندثر. عبر عن نفسه بظهور كثيف وفجائي لم ينبه إلى وجوده بخطاب أو تنظم حزبي ظاهر وله أسماء سياسية (فتنسيقيات حزب النداء مغلقة تقريبا في كل المناطق ولا تنشط حتى في تنظيم دورات  لعب الورق التي كان حزب التجمع ينظمها في مقراته).

هو جمهور انتخابي  وضع نفسه تحت الطلب  وقد ظهر في  انتخابات 2014 لإعادة وضع الحزب القديم (باسميه الدستوري والتجمعي) على سدة السلطة وأثار استغراب الثوريين. ثم صمت ليظهر في الاستقبالات ثم يصمت متربصا بالمواعيد. لم تفككه الثورة بكل طموحاتها والنخب الجديدة لم تستقطبه وتغيير ولاءاته ولعلها لم تطمع إلا  في أصواته دون جهد أو توعية.

جمهور محافظ  في شكله وفي سلوكه السياسي القائم على الإيمان بالشخص الخارق القادر على تعويض كل المؤسسات. جمهور جاهز لزعيم يعادي الديمقراطية ويستهين بالفعل السياسي التأسيسي الذي يطمح إلى بناء ديمقراطية  مختلفة. لذلك طرب أيما طرب بالزيارتين وانتشى بإعادة تمثال زعيمه القديم  أو أبيه الروحي. والرئيس القائم يعرف طبيعة هذا الجمهور لذلك عرف كيف يراوده ليخرج إليه. في حمامات جماهيرية (bain de foule ) ذكَّرت الجميع وخاصة الثوريين الرومانسيين القاعدين عن الفعل بماض خالوا أنفسهم تركوه خلف ظهورهم ذات 17 ديسمبر.

وهنا وجب الانتباه أن الزيارات ليست غاية في ذاتها بقدر ما هي تمهيد لاستفتاء حول الدستور لإعادة تحديد صلاحيات الأجهزة التنفيذية وايلاء رئاسة الجمهورية كل الصلاحيات الممكنة، أي العودة عن النظام شبه البرلماني الذي تم الاتفاق عليه في الدستور لينقض لصالح نظام رئاسي لا يختلف عما  فعل بورقيبة وبن علي.

الجمهور جاهز  والرئيس يختبره والإعلام يمهد له في معركة كسر عظم مع كل المدافعين عن الدستور مكاسبه القليلة التي لم تتجسد بعد. وهكذا عوض أن يذهب التونسيون إلى  تطبيق الدستور خاصة في بنده السابع المتعلق بالحكم المحلي (انتخاب البلديات والمجلس المحلية و ايلاؤها صلاحياتها التنفيذية القائمة على تحرير مبادرتها التنموية في جهاتها) يتجه العمل إلى إعادة مركزة السلطة في يد شخص بصلاحيات غير مراقبة لنعود إلى ما قبل 17 ديسمبر  والجمهور جاهز.

هل نلوم أم نحلل ما نرى؟

في لغة الإحباط  أن اللوم بعد القضاء بدعة. كل يوم نشاهد المنظومة القديمة تثابر على إعادة ترتيب صفوفها وتفلح. بشكل يجعل بعض التحليلات المتفائلة خديعة مؤقتة. ورغم المثابرة في البحث عن مؤشرات تفاؤل فإن الإحباط يعود ليس بسبب قوة المنظومة القديمة بل وخاصة بسبب هشاشة المنظومة التي نسبت نفسها للثورة وادعت القدرة على التغيير. يمكن الجزم أن النظام العائد (بمسمياته القديمة والجديدة) لم يجد أمامه معارضة حقيقية فعالة ومنسجمة حول مبادئ دنيا يمكن العمل بها على قطع الطريق على عودة المنظومة.

لقد اتفق الجميع على الدستور (كل التيارات السياسية كانت ممثلة في التأسيسي  الذي أصدر النص) ولم يعترض أحد من خارج المجلس بل ذهب الجميع إلى الافتخار به وتمجيد  أفقه الديمقراطي. لكن الإجماع حول النص لم يخلق إجماعا في الشارع. ونلاحظ أن كل التيارات  تنقد تجاوزات الرئيس للدستور ولكنها لا تنتبه إلى أن عدم سعيها إلى تطبيق الدستور هو أكبر اختراق وأجزم أن شتاتها هو أكبر اختراق.

هنا يتضح  سبب لحمة الجمهور القديم وظهوره من النسيان لإعادة صناعة زعيمه.   

هذا الجمهور ريفي في عمقه، ضعيف الوعي بالسياسة بصفتها عملية تغيير مستمر بل يرى السياسة طاعة وانتظار. ثُبِتَّت في وعيه مسلمات فولاذية. لا تكون السياسة إلا بزعيم. مثقفو النخبة المعارضة يقولون إن السياسة لا تكون إلا بالمؤسسات لكنهم لا يمرون إلى توريط الشعب في الديمقراطية بصناعة المؤسسات بل يتركونه في حالة ترقب للزعيم.

نحن إذن أمام قطيعة بين المنتمين إلى الثورة (في الخطاب على الأقل) والجمهور الذي يحتاج إلى التغيير ويخاف منه فينكص على عقبيه إلى الزعيم. وانك لتسمع من الجميع  أن قوس الثورة سيغلق خلال هذه السنوات الخمس بل ليذهبن النظام العائد إلى محاكمة الشهداء كمخربين. وانك لتسمع مع كل فئات المعارضة أنهم متفقون على التغيير السلمي معادون من حيث المبدأ للتغيير العنيف المسلح (الإرهابي) ولكن هذا الاتفاق لا يترجم على الميدان بل تحل محله فرقة وشقاق فيقدمون للنظام صورة عن هشاشتهم فيتصرف براحة كبيرة في ترميم بنيانه وإعادة تنصيب رموزه المادية والثقافية. 

ويجد الكثير من المعارضين لذة في تحقير الشعب وضعف مداركه السياسية ليقولوا انه شعب لا يعول عليه في التغيير وهم في حقيقة ما يروجون يختلقون مبررات لأنفسهم لعدم النزول إلى هذا "الشعب الغبي" لتثوير وعيه. ذلك العمل النخبوي وسط الجمهور مكلف في الوقت والجهد والمال وإذا كان يعذر لهم الفقر فإن القليل من العمل  الطويل النفس منتج ولو بعد حين ولكن.. الخلاصة أن النخبة القاعدة  أشدُّ فتكا بالشعب من النظام الذي يعيد  امتلاكه كميراث شخصي.

خاتمة متشائمة للأسف

في هذه المرحلة والحفارات تضع قواعد  تمثال الزعيم الميت في شارع الثورة أشاهد جمع النخب يورط بعضه بضعا في العجز. كلهم يعترض افتراضيا لكنه يقول لخصمه: لماذا لم تخرج للاعتراض؟ غياب مطلق للجدية والالتزام الوطني. يتربص الحداثيون بالإسلاميين لكي يعترضوا على وضع تمثال زعيم الحداثة ليدمغوهم بالرجعية ويتخذون ذلك مطية انتخابية قادمة (ها قد رفضوا الحداثة وأعربوا عن وجههم المعادي للتقدم) يتظاهر الإسلاميون باللامبالاة بالأمر لكي ينجوا من فخ الاعتراض والنتيجة يعود الزعيم المتروك لمكانته في نفوس أنصاره وفي شارع اعتقد الثوريون أنهم حرروه ذات 14 جانفي (يناير). النظام يعيد تملك الفضاء العمومي وترميزه ويستحوذ على الميادين.

متى تنتهي معركة الحداثة مع الإسلاميين (وهي العقدة في منشار تأسيس الديمقراطية التونسية أو بوابة عودة النظام) ليتم التوجه إلى الشارع وتحريره. هنا أكتب أكثر الجمل تشاؤما هذه معركة لن تنتهي أبدا، إلا بفناء أحد طرفيها. وفي استمرارها  ولو بتلوينات ومسميات مستجدة  أو في فناء أحد طرفيها (الإسلامي أو الحداثي واليساري منه خاصة ) هناك رابح واحد هو المنظومة القديمة. لقد عاشت 50 عاما من فوائد هذه المعركة ولا أعتقد أنها تجد سلاحا أفضل منها لكي لا يقوم الشارع في وجهها. وذلك الجمهور المتهم بالخنوع والذي يخرج لاستقبال الزعيم عرف هذه المعركة وتابعها ورفض أطرافها لذلك استكان للموجود غانما سلامته في  بلاد الحد الأدنى.
التعليقات (0)