قضايا وآراء

الحاكمية في البحث العلمي بين الأصوليين والخوارج

محمد حسني عودة
1300x600
1300x600
 كثيرا ما تعرض من هم أقدر مني علما وخبرة وقدرا لمصطلح ومفهوم الحاكمية من جوانب متعددة، وأهمها المفاهيم العقدية والسياسية، منذ ولادة تلك المفاهيم في قضية التحكيم المعروفة بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان (رضي الله عنهما)، وما رشح وتبلور من فهم الخوارج لماهية الحكم بما أنزله الله سبحانه وتعالى، متخذين مبتغى مصلحة تتبع أهواءهم فضلوا وأضلوا. ولن يغيب عن أذهاننا طرح مفهوم الحاكمية في العصر الحديث من قبل الأستاذ المودودي (رحمه الله) في فترة كانت تؤسس فيها لقيام دولة باكستان لتحكم بشرع الله عز وجل بديلا عن التبعية السياسية الغربية ومقتضياتها في تلك الفترة العصيبة. وقد تبع ذلك تطوير ذلك المفهوم عند الأستاذ سيد قطب (رحمه الله)، حيث اعتبر الحاكمية الإلهية التوحيدية ندا لما أسماه الجاهلية المعاصرة التي ترتضي الحكم بغير ما أنزل الله في مفهوم الدولة الوطنية، ليأخذ مفهوم الحاكمية الشمولية الكاملة في كل نظم الحياة، وفي مقدمتها أصول الاعتقاد الصحيح والحكم والسلوك والأخلاق والعلم والمعرفة، ولذلك وصفت الحاكمية عنده بأنها حاكمية شمولية كلية. ولا يمكن لنا أن نختزل بكلمات بسيطة تطور مفهوم الحاكمية منذ قضية التحكيم الأولى إلى عصرنا هذا دون ذكر ما ذهب إليه المعتزلة من الجنوح بشكل غير مسبوق، بإعطاء العقل المساحة الأكبر في الفهم والاجتهاد وجنوحهم لأخطر قضية في فهم الوحي آخذين بالمدرسة العقلية ترتيبا، وذلك خلافا لمدرسة أهل السنة والجماعة.
 
ومن يتتبع تطور مفهوم الحاكمية ومدلولاته وتوظيفه، يجد العجب العجاب في تطبيقه من حيث المصلحة السياسية والهوى الذي عصف بالأمة دهورا، ونرى ما نرى في عصرنا الذي نعيش فيه من تلمس لنهج الخوارج عند البعض.
 
اليوم، وبالأمس القريب شهدنا ونشهد في الغرب من يتكلم عن الحاكمية ولكن بمفهوم لا علاقة له بالحاكمية الإلهية. لقد طبقوا مفهومهم للحاكمية في ميادين كثيرة بمصطلح أسموه (Governance)، وقد ترجمه الكثيرون إلى مصطلح “الحوكمة”، وإنا أختلف مع هذه الترجمة لأقول هي تعني “الحاكمية” مع قراءتي لمدلولات تطبيق مفهوم الحاكمية عندهم في ميادين متعددة، وأخص بالذكر هنا في مقالي هذا مفهوم الحاكمية في البحث العلمي.
 
لقد تطور مفهوم الحاكمية في البحث العلمي عند المدرسة البحثية البريطانية على الأخص، وذلك من خلال ما أدت إليه نتائج بحوثهم على مدار عقود من القرن الماضي والقرن الذي نعيش مع تسجيل الاعتراف لهم بالريادة في العصر الحديث لما للمدرسة البحثية البريطانية من تميز في طرائق البحث العلمي عندها، حتى إنك لتجد أطروحة للدكتوراه تقرأها دون معرفتك للجامعة التي أجري فيها ذلك البحث،  لكنك تدرك سريعا ما إذا كانت تلك تنتمي للمدرسة البحثية البريطانية أم غيرها. ولا ننسى هنا أن نسجل لعلمائنا الأوائل في عصور النهضة الإسلامية تبوؤهم بل إبداعهم في إيجاد المدرسة البحثية الاستقرائية التي بني العالم بأسره ما وصلت إليه هذه المدرسة البحثية.
 
وللمتتبع لنشأة فكرة الحاكمية في البحث العلمي (Research Governance) في المدرسة البحثية البريطانية - اجتهادا منا في محاولة تشخيص الهوية الفكرية البحثية العلمية - نجد أنها لم تأت مصادفة ولا هوى ولا في مصلحة فريق بحثي هنا أو هناك، وإنما لأمر عظيم نسجل فيه التقدير (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ، وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (8- المائدة)، لما نتوقعه من تأثيره على حسن خلافة الإنسان في الأرض. ذلك الأمر الذي كان مبعثه هو التأسيس لميثاق وطني بريطاني نزيه للبحث العلمي.
 
ولكن لماذا بحثوا عن ميثاق وطني لنزاهة البحث العلمي؟ بل إنهم قد أسسوه وعملوا به بالفعل؟
 
لقد بحثوا عن ميثاق يؤطر السلوك والممارسة النزيهة في البحث العلمي والحاكمية المتعلقة بهما. ذلك ربما أبسط سبب أضع به تعريفا بسيطا لميثاق بهذه الخصوصية.
 
أمة تضع مواثيقا وطنية ومنها ميثاق لنزاهة البحث العلمي فتعمل من ورائه لتؤسس كيانات تفعله وتقوم على حاكميته. وكيف يمكن ذلك دون الركون إلى مؤسسات البحث العلمي المتمثلة في الجامعات والمراكز البحثية ومجالس الأبحاث وممولي الأبحاث، من المؤسسات المدنية والحكومية والصناعية؟ وتبعا لذلك، فإن كل من يوقع على الميثاق لا بد أن يلتزم به دون محاباة لشخصه أو مؤسسته أو وصوليته.
 
ومن هنا جاء التفعيل للميثاق، فقد أنشأت الجامعات ومن يلتزم بالميثاق، دستورا خاصا بها للممارسة النزيهة في البحث العلمي (Code of Good Research Conduct) يخضع للميثاق الوطني للبحث العلمي الجيد والنزيه.
 
 دستور لسلوك بحثي متميز.. لماذا؟
 
عنوان يتمحور حول التأسيس لمتطلبات الجامعات ومراكز الأبحاث والنصح والإرشاد لهما في ما يتعلق بالسلوك والممارسة الجيدة والمتميزة في البحث العلمي والبعد عن السلوك غير السوي. وتشكل الأمانة والدقة والشفافية والتواصل المنفتح والعناية والاحترام أهم عناصر الممارسة الجيدة النزيهة في البحث العلمي.
 
 فالأمانة في كل الأمور المتعلقة بالبحث العلمي تكمن في عرض أهداف البحث ومقاصده ونتائجه، وفي الإبلاغ عن طرق البحث العلمي والإجراءات المتعلقه بها، وفي الاستخدام والاستشهاد بأعمال الباحثين الآخرين، وفي إيصال البراهين والشروحات المصاحبه لنتائج البحوث.. والدقة أو الصرامة في ما يتناسق مع المعايير والقواعد الانضباطية في ما يخص عملية البحث العلمي واستخدام طرق البحث المناسبة، وفي الالتزام بالبروتوكولات البحثية المتفق عليها، وفي استقراء النتائج وبيان علتها من خلال البحث الذي أجري، وفي نشر وإعلام الباحثين الآخرين والمجتمع كل في ما يخصه. 
 
أضف إلى ما سبق، أن الشفافية والاتصال المنفتح يتطلبان الإبلاغ عن طرق جميع بيانات الأبحاث في تحليل وشرح البيانات، وفي جعل نتائج البحث متاحة للآخر بشكل متسع، وخصوصا ما يجعل الآخر على دراية ومشاركة بالنتائج السلبية للبحث ما أمكن ذلك.. ثم العناية والاحترام؛ وذلك لكل الباحثين والمشاركين في البحث من البشر ومن الحيوانات في التجارب والبيئة والأشياء والمعالم التراثية، وأيضا ما يخص مسؤولية البحث العلمي، والعلم والثقافة للأجيال القادمة.
 
ومن هنا، فلا بد لأي مؤسسة بحثية علمية كي ترتقي في تميزها بممارسة البحث العلمي، أن تراعي وتلتزم بتطبيق أرقى معايير النزاهة في البحث العلمي في ما يخص بيئتها ومخرجاتها البحثية.. وبهذا تنبثق الحاجة للتأسيس للحاكمية في الممارسة النزيهة للبحث العلمي، والتي أضع تعريفا لها على أنها "تأطير عمليات إدارة البحوث العلمية لضمان نزاهة وجودة البحث العلمي ومخرجاتها، والذي يشمل المبادئ الأساسية للبحث العلمي والقوانين المصاحبة لضمان نزاهته وجودته العلمية والسياسات والمعايير الأساسية الخاصة في ممارسة البحث العلمي بتهيئة البنية التحتية التي تنظم وتدير عملية البحث العلمي من خلال إدارات متخصصة في ضمان جودة ونزاهة البحث العلمي في أي مؤسسة بحثية علمية تراعي التخطيط والإشراف". ولتحقيق ذلك تتطلب الحاكمية في البحث العلمي متطلبات أساسية، ومن أهمها:

- وضع معايير الممارسة المطلوبة والمتميزة في البحث العلمي.

- تأهيل جيل القيادة والريادة في البحث العلمي.

- وضع أسس أخلاقيات البحث العلمي ووسائل تقييمه وتقويمه.

- إدارة قواعد معلومات وبيانات الأبحاث الخاصة بالنزاهة والجودة النوعية.

- وضع أسس وكيفية نشر نتائج البحث العلمي للعامة والمتخصصين.

- المراجعة الذاتية وتضارب المصالح بين الباحثين والمؤسسات.

- الالتزام بالنواحي السلامية والصحية في إجراء البحوث العلمية.

- التدريب والدعم الإرشادي للبحث العلمي.

- وضع الأطر التنظيمية والقوانين الخاصة بالمسؤولية والإهمال، والمساواة والتعددية، والملكية الفردية.
 
ومن أجل أن تكون المساءلة ويكون الاحتكام  للنزاهة في العملية البحثية العلمية، فلا بد من وضع التشريعات والقوانين التي يخص عموم الأبحاث وتخصصاتها، كي تكون أيضا أساسا في الإطار التنظيمي والقانوني لنزاهة البحث العلمي، وعلى سبيل المثال لا الحصر التشريعات الخاصة بالأطفال وحمايتهم، والتجارب السريرية، والمساواة والتعددية، والتعديل الوراثي الجيني، والأنسجة البشرية، والصحة والسلامة، والملكية الفردية، وحرية المعلومات، إلخ.
 
ولعلي أرجع بعد هذا التقديم للحاكمية في البحث العلمي إلى مضمون عنوان المقالة، في ما يخص الأصوليين والخوارج في الحاكمية في البحث العلمي. ولا بد لي قبل البدء أن أقعد القواعد فأقول: إن كل ما نفعله كمسلمين أساسه أن يكون الاحتكام فيه إلى شرع الله عز وجل دون الدخول في التفصيل إلى دقائق الأمور، لأن لها بحثها الخاص للمتخصصين الذين لست بمستوى تأهيلهم، ولكنني أنوه إلى أننا هنا نتحدث عن الحاكمية التي تحكم خلافة الإنسان لله في الأرض، بحيث لا يفسد فيها ولا تُسفك الدماء.
 
وبعد هذا التأسيس للمفاهيم: فمن هم الأصوليون في البحث العلمي الذين عندهم حاكمية؟ وبالطبع من هم الخوارج عن تلك الأصولية وعن حاكمية أصوليتهم؟
 
لا شك أن الغربيين ومنهم المدرسة البحثية البريطانية علمانيون في صلب توجههم، وإن كنا نلحظ عند البعض تدينه وتأثره بقيم تدينه. ولكننا ينبغي أن نقول الحق الذي نعرفه - قدر استطاعتنا وهدايتنا إليه – وهو أن هؤلاء القوم قد وضعوا أسسا ومعايير للنزاهة في البحث العلمي تتوافق كثيرا فيما يبدو، وتحتاج لبحث وتأصيل شرعي في دقائقها مع قيم الإسلام وتعاليمه.. مثال ذلك ما يخص الأمانة والصرامة والشفافية والاحترام والرعاية للآخرين.  ومن هنا اصطلح استخدام مفهوم "الأصوليين" على من يتبعون معايير وأسسا في نزاهة البحث العلمي.. ومن يخرج عن اتباع تلك الأسس والمعايير، فإنه يغرد خارج السرب في البحث العلمي!!
 
ألسنا اليوم بحاجة إلى ميثاق وطني في نزاهة البحث العلمي وفي السلوك والممارسة الجيدة والمتميزة؟ ألسنا بحاجة أن يكون ذلك الميثاق متفقا منتظما متصلا بحاكمية الله للبشر في كونهم خلفاء الله في الأرض كي يعمروها؟ وإلا فكيف يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ وكيف نكون أمة من أحسن صنعا؟ وكيف نكون أمة الخيرية التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر مدفوعة بإيمانها الذي يجعلها نزيهة في كل شئ، وفي احتكامها لحاكميتها في نزاهة وسلامة سلوكها وممارستها لبحثها العلمي؟
 
إذا كنا لا نريد أن نكون من الخوارج على النزاهة في البحث العلمي، فعلينا أن نعمل لإنشاء ميثاق ليس وطنيا فحسب بل ميثاقا إسلاميا دوليا في نزاهة البحث العلمي والسلوك والممارسة فيه ما يتفق شموليا وتنظيميا مع شريعتنا، ولماذا لا نعمل مع الغرب الذي تقدم علينا في وضع إطار عام لميثاق دولي لا يتنافى مع شرعنا الحنيف، ونخص فيه ما يخص حاكميتنا لله عز وجل وخصوصا في التشريعات والقوانين التي تخص نزاهة سلوكنا وممارستنا في البحث العلمي؟
 
لن أكون ممن يرسمون صورة مظلمة لما يجري في عالمنا من سوء في السلوك في البحث العلمي، بل عدم نزاهة بدرجة كبيرة حتى إننا في أخطر أوقات نمر بها ونحن عندنا من يقود العملية البحثية ويشرف على أبحاث طلبة ليس مؤهلا لذلك، بل إنك تجده لم يتعلم البحث العلمي على أصوله، وقد تخرج من جامعات هنا وهناك لا تعرف للبحث العلمي أسسه، عوضا عن النزاهة في السلوك البحثي.

ومما يزيد الطين بلة أن نعقد مؤتمرات علمية من أجل السمعة والمباهاة، ونؤسس دوريات علمية تنشر فيها أبحاث لا قيمة لها ولا لحبر حروفها، وقد تستخدم تلك في الترقيات إلى درجات علمية عليا كالأستاذية. المصيبة الكبرى أن تتحدث وتجتمع مع أساتذة في تخصص ما بدرجة الأستاذية لا يمكن أن يصنفوا كذلك، لعدة أسباب؛ منها عدم أهليتهم العميقة في عمق تخصصهم وكأنهم مزيج من كل بحر قطيرات. من هنا، فإنه ينبغي أن تراجع الجامعات في عالمنا أسس ومعايير الترقية في الدرجات العلمية المختلفة بحيث لا تكون مرتبطة فقط بعدد البحوث ودورياتها العلمية، بل تكون محفظة متميزة في البحث العلمي ومدى تمكن الشخص في تأثيره العلمي على المجتمع أو الصناعة أو في كينونة علمه، بل ربما كل هذه. ولن أكون متعديا ولا ظالما، بل حريصا على الأجيال الحالية والقادمة أن تتم المراجعة وبصفة دورية لمن ترقوا في درجات.. هل هم أهل لها أم لا؟ وهل تطوروا بعد ذلك؛ وبالطبع حتى نرتقي في سلم النزاهة في سلوكنا وممارستنا في البحث العلمي؟
 
وسؤال يدور في داخلي وربما عند الكثيرين منا ولكن أساسه الغيرة على تراثنا: ألسنا بحاجة إلى حاكمية نزيهة في نقد التراث وتنقيح ما يحتاج لتنقيح دون المساس بعقيدتنا وحميتنا لله عزوجل؟
   
وأخيرا، أتساءل مع نفسي أولا قبل غيري: ماذا نحن فاعلون كي نقرأ باسم ربنا الذي خلقنا ونقوم على العملية العلمية بأحسن ما ينبغي؟
 
ندعو الله عز وجل أن يغفر لي ولكم أي زلل أو خطأ في ما اجتهدت فيه من إبداء للرأي وتشخيص لما نمر به حتى لا نكون خارج السرب، بل  أن نكون مطبقين مؤثرين في وضع استراتيجيات النزاهة في البحث العلمي وأسسها ومعاييرها، ليس فقط على المستويين الوطني والإسلامي، بل عالميا، لعالمية رسالة الإسلام التي لم يرسل رسول الهدى إلا لها: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (107- الأنبياء).
 
• الكاتب: رئيس مجموعة أبحاث هندسة البرمجيات؛ جامعة غرب إنجلترا- بريستول- المملكة المتحدة.
التعليقات (1)
dz
السبت، 05-03-2016 08:27 م
بوركت يا استاد