قضايا وآراء

المقاومة تحت المساءلة

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600
كلما تحدث أحدنا برأي نقدي لنهج المقاومة في قطاع غزة أو بعض سياساتها ومواقفها أشهر في وجهه رد جاهز: من أنت حتى تزاود على المجاهدين الذين يضحون بأنفسهم وأموالهم ويسهرون من أجل أن تنام آمنا في بيتك؟ هكذا تصير التضحية والبطولة مدخلا لإجهاض أي مراجعات وإخماد أي صوت للعقل والرؤية المختلفة.

هل علينا أن نعيد التأكيد في كل مرة أننا نحب المجاهدين ونقدر جهادهم ونرى أنهم بلغوا من الفضل والإخلاص والتجرد لله ما لم يبلغه غيرهم! لكن التضحية والجهاد تدل على الصدق وقوة الإخلاص للمبدأ دون أن تدل على عصمة الاجتهاد وعلى انعدام إمكانية البحث في خيارات أخرى أكثر حكمة وأكثر اقتصادية تقلل من تكلفة الدماء والتضحيات الباهظة التي يدفعها شعبنا، فالتضحية لم تكن يوما مقصدا في ذاتها إلا في تصورات الحمقى، إن الجهاد والقتال مشروع في الدين لأنه اختبار لصدق المؤمنين وليس لما يرافقه من خسارة ومغامرة، فالمقصد هو اختبار صدق الإيمان وحسب وليس من مقاصد الدين في شيء أن تجر الشعوب إلى حروب خاسرة وإلى مغامرات يمكن اجتنابها بالحكمة السياسية، فالله تعالى ليس وحشيا دمويا حتى ينتشي بمشاهد الأشلاء المقطعة والمباني المدمرة، وقد فرض القتال على المؤمنين الأوائل وهو كره لهم، والنبي محمد عليه السلام قال آسفا: " يا ويح قريش أكلتهم الحرب"، وعمر بن الخطاب قال: "وددت لو أن بيني وبين فارس جبلا من نار، لا أغزوهم ولا يغزونني"، هذه هي النفس السوية لا تلجأ إلى القتال إلا حين تسد الخيارات أمامها ويفرض عليها خيارا أخيرا، أما من يتعجل الحرب ويستطيب أحاديثها فهو ينطوي على قلب مريض ونفس عليلة، تشبه حاله حال من قال القرآن فيهم: "ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة"، "ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير".

نحب المجاهدين في غزة لصدقهم ولتضحيتهم براحتهم الشخصية وتركهم الزوجة والولد في سبيل البحث عن وسائل للإثخان في العدو ورد بأسه عن شعبهم، لكن أمارة حبنا لهم هو أن نصدقهم النصيحة لا أن نجاملهم بالثناء وحسب، إن غاية إثبات الصدق يمكن تحققها سواء في أزمنة الحروب أو أزمنة السلام، فلسنا مضطرين لخوض حرب حتى نقدم الشهداء ونميز الصادقين من الكاذبين، أما خوض المواجهة فعلا فهو بحاجة إلى اعتبارات كثيرة غير اعتبار وجود ثلة من المجاهدين الصادقين المتلهفين لملاقاة عدوهم، إنه بحاجة أولا إلى تحديد هدف المواجهة، ثم البحث عن التوقيت المناسب، ثم تأمين الظهير السياسي والعمق الاستراتيجي حتى لا يستفرد العدو بنا، ثم القراءة الواقعية لموازين القوى وما الذي يملكه العدو من أوراق سياسية وعسكرية وأمنية وما الذي نملكه نحن من أوراق قوة يمكننا بها لجم عدونا والدفاع عن جبهتنا الداخلية، فالإيمان ليس بديلا عن الواقعية السياسية، والله تعالى خلق سننا للنصر والهزيمة، وهو ينصر عباده بالأسباب المادية لا بالمعجزات الخارقة للطبيعة، وقراءة الاحتمالات الواقعية لنتائج أي مواجهة قبل خوضها، وهل نحن مستعدون لتحمل هذه النتائج، وهل المعطيات السياسية ترجح احتمال تحقيق أهدافنا أم أننا نعتقد أن الحياة تسير بالأمنيات والبركات والأحاجي غير القابلة للفهم، كما ظننا أن إسرائيل ستفتح لنا الميناء والمطار عقب حرب 2014 دون أن نطرح سؤالا بسيطا: ما الذي سيجبر عدونا على منحنا نصرا مجانيا ونحن لا نملك أوراق ضغط داخلية أو إقليمية قادرة على إجبارها على ذلك!

في السؤال الأول عن هدف المواجهة، تصوروا كم هو سؤال بديهي وبسيط إلا أنه لم يناقش جديا حتى اللحظة في فكر المقاومة العسكرية والسياسية في قطاع غزة ولم تبلور رؤية واضحة حوله، هل هدف المقاومة العسكرية في قطاع غزة هو تحرير فلسطين أم فقط إبقاء شعلة المقاومة متقدة واستنزاف العدو الصهيوني من الراحة وإفقاده الشعور بالاستقرار، إن من شأن الإجابة الواضحة على هذا السؤال تحديد وجهة الأحداث واستراتيجيات المقاومة، فإذا كان الهدف هو تحرير فلسطين انطلاقا من قطاع غزة فهل هو هدف واقعي، وما هي عدة قطاع غزة المحاصر الصغير لتحقيق هذا الهدف الكبير الذي هو مسئولية الأمة كلها وليس فقط الشعب الفلسطيني، ما هو المخطط العملي الواقعي للزحف إلى تل أبيب وفتحها وما هي الخيارات التي ستلجأ إليها إسرائيل الدولة المدججة بأعتى الأسلحة والمستنفرة أمنيا منذ أول يوم لتأسيسها في حال أحست بالخطر الوجودي أم أننا نظن بطريقة غامضة غير عقلانية أن إسرائيل ستحافظ على وتيرة النيران التي اعتدناها منها في المواجهات السابقة حين يتعلق الأمر بحرب وجود وأنها لن تستفيد من قدراتها التدميرية التي تمكنها من إبادة قطاع غزة عن بكرة أبيه في ساعة من نهار، وهل واقع الأمة العربية المنهكة في مشكلاتها الداخلية مهيأ لمشاركتنا في حرب مصيرية مثل هذه؟

أحاول وأنا أطرح هذه الأسئلة ألا أتبنى رأيا محددا بل فقط أن أوقظ حس السؤال في العقل الفلسطيني المقاوم. لا أرفض من حيث المبدأ التفكير في أي سيناريو لكن أن توضع كل الاحتمالات الواقعية على بساط البحث ووضع الحلول الناجعة للتعامل معها بعيدا عن فكر الرغبات والأمنيات المغرق في الغيبيات والخوارق.

أما إذا كانت الثانية، وهي أن هدف المقاومة العسكرية في قطاع غزة مقتصر على إبقاء شعلة المقاومة متقدة واستنزاف راحة العدو الصهيوني فهل يقتضي هذا الهدف خوض ثلاثة حروب مدمرة في بضع سنين أدت إلى زيادة معاناة أهالي القطاع الذين يعيشون ظروفا بائسة من انقطاع الكهرباء وإغلاق المعابر وقلة الرواتب لتأتي مآسي الحروب فتزيدهم مأساة بعد مأساة في ظل معادلة إقليمية ودولية ظالمة تتيح لإسرائيل الاستفراد بنا وتتركنا وحدنا دون مقومات اقتصادية وإنسانية، إن هدف استنزاف راحة إسرائيل يمكن تحقيقه بأنشطة إعلامية وجماهيرية وعسكرية ولكن محدودة دون الحاجة إلى حرب كبيرة تفوق طاقة قطاع غزة على الاحتمال.

سيقول فريق من الناس إنك تتحدث وكأن المقاومة الفلسطينية هي المبادرة إلى شن الحروب وإنك تتجاهل أن إسرائيل هي المعتدية وإن فصائل المقاومة في قطاع غزة في موقع الدفاع عن النفس، هذا كلام براق ويدغدغ خطاب المظلومية الفلسطينية، لكنه لا يكفي حين يتعلق الأمر بمراجعات نقدية ذاتية، لأن المراجعات تتطلب تقديم إجابات دقيقة، إن جرم إسرائيل الأساسي كونها دولة الاحتلال والعدوان ليس محل نقاش هنا لأننا لا نجادل في الحق المبدئي للفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم، بل نجادل في طريقة إدارة المقاومة الفلسطينية لحقها المبدئي في الدفاع عن نفسها وهل من شأن هذه الإدارة أن تحقق مصالح شعبها أم تقودهم إلى مآلات أسوأ مما قبل المواجهة.

بالإضافة إلى الاعتبار الأساسي في أن إسرائيل دولة احتلال وعدوان فإن للعامل الداخلي الفلسطيني دورا في إنضاج قرارات الحروب الإسرائيلية، وهنا يكمن خطأ المقاومة في قطاع غزة في أنها تتبنى خطابا عسكريا يضخم قدراتها ويبالغ في عسكرة المشهد الفلسطيني مما يقوي التيار الداعي إلى الحرب في المجتمع الصهيوني بشقيه الجماهيري والسياسي ويمنح إسرائيل أدوات دعائية مجانية لحشد تأييد عالمي للعدوان على قطاع غزة كون الصورة النمطية له هي صورة معسكر تدريب مدجج بالأسلحة والاستعدادات العسكرية، ومثال قضية الأنفاق في الأيام الأخيرة بالغ الدلالة إذ قادت تصريحات السياسيين والإعلاميين في غزة عن قدرات المقاومة واستعداداتها للمواجهة القادمة مع إسرائيل إلى استثارة تيار في دولة الاحتلال يدعو إلى التعجيل في شن حرب ضد الأنفاق، ورغم تردد نتنياهو حتى اللحظة في شن هذه الحرب، فإن كل حديث جديد أو استعراض عسكري صادر من قطاع غزة عن الأنفاق صار يمثل أداة ضغط تقوي التيار المؤيد لهذه الحرب داخل أوساط الاحتلال، لا يكفي أن تصرح بأنك لا تسعى إلى الحرب في الوقت الذي تنضج ظروفها، إن الرغبة الصادقة في تجنب الحرب يقتضي خلق بيئة سياسية وإعلامية تبعد شبحها، والكف عن مبالغاتنا في أحاديث العسكرة والتسلح وترسيخ التهدئة والبحث عن سبل تخفف معاناة الناس في ظل بيئة إقليمية غير مواتية لأي مواجهة جديدة.

المقاومة هي فعل تحرري عظيم يعني الإرادة في مواجهة الظلم المدجج بالقوة، لكن من المحظور تصنيمها وتقديسها بشكل أعمى، بل يجب إخضاعها باستمرار لحالة نقد ومراجعة في ضوء مآلاتها وتجاربها، والبحث عن الخيارات الأقدر على تحقيق أهدافنا الوطنية بأقل تكلفة من الدماء والخسائر وبعيدا عن المغامرات غير العقلانية.
1
التعليقات (1)
فاطمة وعزية
الأربعاء، 10-02-2016 04:09 م
مع الاحترام ، أختلف معك في قضية تضخيم المقاومة لقدراتها العسكرية و هو الامر الذي اعتبرته سيدفع الاحتلال لحشد كل القوى ضد القطاع، الاحتلال ليس بحاجة للدعاية ضد المقاومة ، فالمجتمع الدولي يقف ضد غزة و ضد كل عربي مسلم سني، من حق المقاومة أن تربك حسابات العدو و إدخال الرعب في قلوبهم بكل الوسائل بما فيها تدمير نفسيتهم و دفع الشعب اليهيودي للهجرة عن فلسطيني أو على الاقل خلق أزمة داخلية في الوسط السياسي الصهيوني .